باسم محمد حبيب
بعد سقوط النظام في عام 2003 و بدء عمليات البحث عن المغيبين ومن قام النظام باعتقالهم من دون أن يعرف مصيرهم أو من جرى إعدامهم من دون أن يتم تسليم رفاتهم إلى ذويهم، جرى اكتشاف العشرات من المقابر الجماعية في أنحاء مختلفة من العراق، إذ أظهرت هذه المقابر انتهاج النظام أسلوب الدفن الجماعي لمن يجري قتلهم وإعدامهم، لتلافي ردود الفعل المحتملة في حال جرى تنفيذ عمليات الإعدام بشكل علني أو تسليم الرفاة بشكل جماعي.
لكن هذا ليس السبب الوحيد لهذا السلوك، بل وكذلك العوامل السياسية التي تبرزها كثرة عمليات الإبادة والقتل الجماعي التي شهدها العراق طوال تاريخه الطويل، ما يعني أن ظاهرة العنف في العراق قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالصراع على السلطة، الذي لم يكن غالبا على شاكلة أي صراع آخر، ليس بأساليب العنف المستخدمة فيه فقط، بل وبمخلفاته الدموية والكارثية أيضا، فضلا عن ظاهرة احتكار المغانم وإقصاء الآخرين عنها في أمر بات أشبه بظاهرة عامة طوال معظم حقب التاريخ العراقي الطويل.
لكن الأمر الذي جعل هذه الظاهرة أشبه بقدر من الأقدار، هو طبيعة الثقافة الحاكمة للواقع الإجتماعي العراقي، وهي ثقافية مرتكزها الأساس مبدأ الصراع والتغالب، ليس كظاهرة سياسية فحسب، بل وكظاهرة إجتماعية أيضا، ما جعل العنف يسود حتى في الواقع الإجتماعي، وفي إطار التعاملات اليومية للناس، من أهم تجلياته: العنف العشائري، الذي مثل ظاهرة سائدة في البوادي والأرياف، والعنف المديني الذي يتجلى في صراع الأحياء والمحلات داخل المدن، على الرغم من كونه أخف وطأة من أشكال العنف الأخرى.
ولم تتقلص ظاهرة العنف في العراق كثيرا بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921، ويعزى ذلك إلى عدم فاعلية الإجراءات الحكومية في مجال فرض القانون وتطبيقه، فضلا عن ضعف مؤسسات الدولة، إذ شهد العراق أحداثا دموية أخطرها: حركة 14 تموز 1958 التي جرى فيها قتل معظم أفراد العائلة المالكة وسحلهم والتمثيل بهم في حدث مروع هز الوجدان العراقي وفتح الباب لحالات عنف أشد هولا وترويعا، ثم تتابعت الأحداث الدموية، ليأتي أكثرها بشاعة حدث 8 شباط 1963 وما تبعه من عمليات قتل وإقصاء للخصوم، ثم جاء الحدث الأكبر أنقلاب 17 تموز 1968 الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة، والذي فتح ابواب البلد على حمامات دم لم تتوقف إلا بسقوط النظام في عام 2003، فكان من نتائج ذلك انتشار العشرات من المقابر الجماعية في أنحاء مختلفة من العراق، ما يدل على أن مستوى العنف قد تجاوز كثيرا معدلاته السابقة، في حين تطورت الأساليب المعتمدة فيه حتى باتت أقرب ما تكون إلى الأساليب البدائية، فتحول العنف من عنف منظم إلى عنف غير منظم، ومن ظاهرة مؤسسية إلى ظاهرة سلطوية ترتبط بأوامر فرد أو أفراد معينين، مع إضفاء قدر من الشكلية القانونية عليه ليبدو وكأنه مرتبط بقرارات قضائية.
لكن الأمر تجاوز ذلك أيضا، لأن كثيرا من حالات العنف بدت وكأنها مجرد قتل يتم من دون سابق محاكمة أو أي ترتيبات قانونية، فبات الأمر وكأنه تنفيس عن غضب ما، أو فرض نوع من الرعب لتلافي أي تمردات مستقبلية، ولعل ما يؤكد الطبيعة العشوائية لما آل إليه العنف في العراق في تلك المدة، هي حالات الدفن الجماعي التي تمثل إنتهاكا صارخا ليس فقط لحقوق من تم قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية، بل ولحقوق ذويهم الذين بقي كثير منهم غير عارف بما حصل لأبنائهم بعد اعتقالهم من قبل السلطة، فكان من نتائج ذلك شيوع عدم تصديق بعض الأهل موت أولادهم، وبقاء من ينتظر عودتهم من الأهل، وهي وسيلة تعويضية يمكن ربطها بما يسميه علم النفس : الهروب من الحقيقة، ما يجعلها - أي المقابر الجماعية - ليس فقط جريمة إنسانية كبيرة، بل وإنتهاك كبير وصارخ لحقوق الإنسان.
ومن ثم يمكن ربط هذه الظاهرة العنفية أيضا - أي المقابر الجماعية - من وجود ميل لدى النظام الحاكم للتنكيل والانتقام من خصومه، فالسلوك العنفي لا يمكن ربطه دائما بالعوامل الثقافية والاجتماعية فقط، بل وبالعوامل الشخصية أيضا، لاسيما في بلد محكوم من نظام فردي دكتاتوري يمثل الحاكم فيه السلطة الوحيدة في البلد، على الرغم من وجود المؤسسات التي يقتصر دورها في غالب الأحيان على إضفاء الشرعية على القرارات التي يصدرها الحاكم.