نحن وما بعد الحداثة

آراء 2024/05/26
...

  رزاق عداي

 - مسعى الخطاب في تيارات - ما بعد الحداثة -يهدف إلى طمس التراث التنويري والحداثي القائم على أولوية العقل، وبالتالي تعطيل ما يسمى - بالمشروع الثقافي الغربي، لينتهي إلى منطق يشبه منطق اللاادري يزيح الانسان - العقلاني، ويقذف به على هامش النصوص،  والحقيقة أن لهذه التجليات تواريخ وتطورات بعيدة عند الفكر الغربي ، ولهذه الموجات والموديلات النظرية مسوغات تقترن بنتائج ظهرت سلبية في سوح الحياة الغربية لاحقاً، ومنها الحروب والكوارث السياسية والعنف والاضطهاد، وكلها جرت تحت خيمة العقل، الذي نادت به الحداثة الاولى والتنوير الأوروبيان، فأين نحن من كل هذا في العراق على الأقل؟.

 تنحو النصوص في خطابات ما بعد الحداثة أن تصبح هي الواقع، ويزاح الواقع ليصبح شبحا، وجملة هذه المعطيات عند مواجهتها، تجعلنا ننخرط في مسارات ولولبيات شتى وعناوين بمسميات متنوعة، من مثل سحب أو أحقاب معرفية، أو خطابات تهشم وتشتت مركزية العقل، وبموجبها تتشظى الحقائق المركزية وتتشتت، وتسود الريبة في كل ما يحيط بنا، ويصبح للغير الحق في كل شيء في تأسيس ما يحلو له، ولم يكتف بنشاط أو بفكرة ما، انما ابتكار نثر - فلسفي مستقل وذاتي خاص على مثلما أنتج، ميشيل فوكو، وجيل دولوز واتباع موجة ما بعد الحداثة، من اطروحات لها خصوصيات منقطعة عما سبقها. 

 إن المناخ المعرفي الغربي المتسامح راح ينتج اشكالا تفكيرية غير محدودة اسهمت في شيوع سيل من الخطابات غير متفقة مفاهيميا، وفاقدة للبؤر المركزية، ومنقطعة عن كل تقليد، فليس بالضرورة ان يتمفصل مع حلقات سابقة، ان التراث لديه مشكوك بالأساس في متونه، كما بشر بذلك الاب الروحي لفكر ما بعد الحداثة الفيلسوف الالماني الشهير  فريدرك نيتشة.

 لقد كانت هناك ارضية وممهدات موغلة في القدم لهذه الانعطافات الحادة في مسار الفكر الأوروبي، كفكرة الشك التي شابت الفكر الديكارتي، ولكن مقاربات – الما بعد حداثويين - كانت تمردا جذرياً في مسار الفكر الأوروبي، عندما قُتلت في دواخلهم كل الامال المعقودة في العقل، الذي نادى به الجيل الاول من فرسان الحداثة الأولى (فولتير، ومنتسكيو، وروسو، وتوكليف)، ثم العقول النقدية الكبيرة التي اعقبت هؤلاء (كانت -هيغل -ماركس )، كانوا جلهم يتفقون في قدرة العقل على تحقيق الأمل الذهبي للانسانية في بلوغ المجتمع الانساني المرفه والمسالم، ويعتقدون بترابط العقل والحرية، والاخيرة هي هدف التاريخ الأخير. 

 بعد الحربين العالمتين كان فكر الحداثة يتعرض إلى الشك والنقد الشديدين بفعل الخيبة والانكسار الناتجين عن المجازر والعنف المفرطين، والتحول في مضمون العقل الطبيعي الأول وتحوله نحو عقل أداتي يخدم مصالح فئات كونية قوية ضد اخرى مضطهدة، لذلك تهشمت (اليوتيبيات) القديمة، لقد اراد النقد أن يغير مرتكزات العقل القديمة، ويبدل تصوراته التي تعرضت إلى الاهتزاز، رافق ذلك ظهور موجات من النظريات والتيارات المتعددة. 

 فالبنيوية أكدت فكرة انحسار الإنسان إن لم يكن موته قبالة البنى والأنساق والمؤسسات المعرفية، والتفكيك الذي رد على البنيوية الذي ناوأها، قال بان ليست هناك بنى وأواصر، إنما هناك تفكيك ووحدات مجتزئة، وبمجمل هذه التيارات اُريد القول إن ليس هناك من حقيقة مطلقة، وقد اقترن كل هذا بالموقف من النظريات التأويلية (الهرمنيوطيقية)، والتي تتبع مشرعها الأول فريدرك نيتشة. 

 الاكثر مثاراً لمشروع ما بعد الحداثة نمطا غريبا في تأويل بعض الاحداث الكبرى، ففيلسوف - ما بعد حداثوي - يدعى ( جان بودريارد ) خرج علينا بان حرب الخليج الاولى لم تكن سوى خطابات اعلامية متقابلة ومتصاعدة، وانها لم تقع سوى في ساحة الاعلام ووسائله، لأن وسائل الردع كان كافية لعدم وقوعها وهي محض مناورات اعلامية نصوصية ، ولكن الأحداث لاحقا كذبت تنظيراته واحترق العراق في اتون نيران حرب واقعية رهيبة عادت به إلى تخوم القرون

الوسطى. 

الحقيقة إن الاشكالات والأزمات التي تواجه الفكر الغربي هي ليست شبيهة بما نواجهه هنا في كل الاحوال، لذا فالموديلات والافرازات التي يطرحها الفكر الغربي، تناسب منهاجه ومقاربته التي تنسجم مع أبعاد مشكلاته، اما نحن وفي العراق خصوصا فما برحنا نتعثر في ديمقراطية لا نلمس منها سوى الاسم ولم نتخطاه بعد.