عادل الجبوري
طبيعي ان انشغال أو اشغال الدولة-السلطة- بالكثير من القضايا والملفات والمشاكل المعقدة والشائكة، خصوصا مثل تلك التي واجهها العراق بعد نيسان-ابريل 2003، يؤدي إلى استنزافها واضعافها لصالح القوى والمنظومات الاخرى، وهذا ما حصل في أوقات مختلفة في دول مثل لبنان والسودان وافغانستان، وقبلها دولاً أوروبية وآسيوية وافريقية
عديدة
أصدرت وزارة الداخلية مؤخرا، تقارير تشير بشكل واضح إلى انخفاض ملحوظ في الجرائم والتجاوزات المرتكبة، خلال الثلث الاول من العام الجاري، مقارنة بالفترة المماثلة لها من العام الماضي.
حيث تؤكد تلك التقارير انخفاض جرائم القتل العمد بنسبة 29 %، وما يعرف بالدكة العشائرية بنسبة اكثر من 70 %، وفي مجمل الجرائم الاخرى
بنسبة 9 %.
لا شك أن مثل تلك الارقام تؤشر إلى تحول ايجابي مهم للغاية في موضوعة تعزيز وترسيخ الامن المجتمعي في الاطار العام، باعتباره مفتاحا ومدخلا اساسيا لتحقيق انجازات والتقدم خطوات نحو تكريس الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.
وثمة عوامل عديدة ومختلفة، ساهمت بدرجات ومستويات متفاوتة بغياب الأمن المطلوب في البلاد بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، من بينها الاحتلال الاميركي والتواجد الاجنبي، والتجاذبات والخلافات والتقاطعات السياسية بين شركاء الوطن، وضعف منظومة الحكم ومؤسسات الدولة، والارتهان للارادات والاجندات الخارجية، وظهور الجماعات والتنظيمات الارهابية التكفيرية. وكل هذه العوامل، وربما غيرها، ساهمت في ايجاد مشهد مرتبك ومضطرب، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وما زاده ارتباكاً واضطراباً هو ضعف أدوات القوة لدى الدولة- أو السلطة- في مقابل تمدد واتساع نفوذ وهيمنة عناوين أخرى، مثل الأحزاب، والعشائر، وجماعات النفوذ المستقوي بالخارج، والجماعات الخارجة عن القانون. وبدلا من أن تعمل تلك العناوين وتتحرك تحت مظلة الدولة، وضمن سياقات القوانين والضوابط القائمة، فإنها سعت بكل جهدها إلى ابتلاع الدولة واخضاع وتكريس مؤسساتها ومواردها وامكانياتها لتحقيق مصالح فئوية وحزبية وشخصية خاصة.
وطبيعي ان انشغال أو اشغال الدولة-السلطة- بالكثير من القضايا والملفات والمشاكل المعقدة والشائكة، خصوصا مثل تلك التي واجهها العراق بعد نيسان-ابريل 2003، يؤدي إلى استنزافها واضعافها لصالح القوى والمنظومات الاخرى، وهذا ما حصل في أوقات مختلفة في دول مثل لبنان والسودان وافغانستان، وقبلها دولاً أوروبية وآسيوية وافريقية عديدة.
وقد اثبتت تجارب العقدين المنصرمين، أنه في ظل غياب الامن الحقيقي، لايمكن تحقيق الاستقرار السياسي، ولا الوصول إلى الازدهار الاقتصادي.
فوجود تنظيم القاعدة، ومن بعده تنظيم داعش، الارهابيين، تسبب في حدوث هزّات وتصدعات مجتمعية وسياسية واقتصادية كبيرة، والشيء نفسه بالنسبة للاحتلال الاميركي، وكذلك الجماعات الخارجة عن القانون، اياً كانت مسمياتها وعناوينها، ناهيك عن بعض الصراعات السياسية التي كانت تصل إلى مرحلة الصدامات والمواجهات المسلحة بين المتخاصمين.
وهناك معادلة واضحة، لا يختلف عليها اثنان، وهي ان أي فراغ أو مساحة تتركها وتفرط بها الدولة- السلطة، لابد ان يشغلها طرف معين بصورة أو بأخرى، وهذا ما حصل على مدار اعوام.
ولكن حين تستثمر وتوظف الدولة-السلطة- كل أدواتها بالشكل الصحيح، فان المعادلة ستنقلب، بما يفضي إلى تراجع الجرائم، وتراجع مظاهر الاستحواذ واستغلال الممتلكات العامة لتحقيق مكاسب ومنافع خاصة، سواء كانت تلك الممتلكات العامة مباني حكوميةَ، أو شوارعَ، أو حتى سيارات!، وتقلص مساحات التهريب والسرقة والنهب العام، والفساد المالي والاداري بشتى أوجهه واشكاله وصوره.
كما هو الحال مع اعداد كبيرة جدا من الأشخاص، الذين يتقاضون رواتبا من الدولة، الا انهم لا يقدمون شيئا لها بقدر خدمتهم لأحزابهم ورموزهم
السياسية.
ومع تراجع وتقلص وانحسار هذه المظاهر والظواهر والسلوكيات السلبية الخطيرة جدا، تنفتح افاق وفرص البناء والاعمار والتنمية والنهوض بمختلف القطاعات التنموية والخدمية، كالصحة والتربية والتعليم والزراعة والصناعة والاسكان والنقل.ولعل مؤشرات وملامح ذلك الترابط راحت تلوح وتتبلور تدريجيا خلال الاعوام القلائل الماضية، لتنعكس على فئات وشرائح اجتماعية مختلفة، وتتجلى بصورة رضى وقبول وتفاؤل وتوقع ما هو افضل، رغم أن المطالب كبيرة وكثيرة، والتراكمات هائلة وثقيلة.
ومن الصعب جدا ان تتحرك عجلة البناء والاعمار، وينحسر الفساد، ويترسخ القانون، ويسود النظام، من دون توفر الامن، ولا شك أن الارقام التي أوردتها وزارة الداخلية عن تراجع نسب ومعدلات الجرائم المجتمعية، لاينفصل بأي حال من الاحوال عن ذلك الحراك السياسي والاقتصادي الايجابي، سواء كان في اطار الحكومة أو ضمن الفضاء العام.
ومما لا خلاف عليه هو أن تحقيق الامن المجتمعي، يمثل مسؤولية جماعية تضامنية بين كل مكونات النسيج الاجتماعي، وإن كان الجزء الاكبر يقع على عاتق الحكومة بمؤسساتها ومفاصلها وادواتها المعنية، مثلما أن اي خطوات ومنجزات ايجابية على الصعد السياسية والاقتصادية والخدمية المختلفة، يفترض ان تنعكس على الجميع، ويقطف ثمارها
الجميع.
ولا نخطأ حينما نعتبر الامن المجتمعي مدخلا ومفتاحا للاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.