إرادة الصمت أصعب من إرادة الكلام
د. عبد الجبار الرفاعي
تكمن قوةُ الصمت الحكيم في أنه يمنح الإنسانَ إرادةً تتصلب بمرور الوقت، وتجعله قادرًا بسهولةٍ على الحضورِ المكثَّف في ذاته، والكفِّ عن إهدار طاقته في الانغمار في لّجة الناس وأحاديثهم المملّة، ولجوئهم للتكلم باستمرارٍ عن كلِّ شيء.
الصمت الحكيم يسافر بالإنسان داخل الذات، ويتوغل فيها ليكتشف طبقاتِها العميقة، ويسبر أغوارَها.
هذا الصمت يخفض القلقَ الوجودي، والخواءَ الروحي، والشعورَ باللامعنى. الصامتُ مشغولٌ بنفسه، مَن يتكلم كثيرًا مشغولٌ بغيره، مَن ينشغل بنفسه يكفُّ أذاه عن غيره، ونادرًا ما يلجأ للعنف في حلّ نزاعاته وإدارة مشكلاته.
كلما ازدادت ثرثرةُ المجتمعات اشتدّت وتيرةُ العنف الرمزي واللفظي والجسدي فيها، وانخفض لديها الإنجازُ الفردي والناتج القومي.
ما يتعلّمه الإنسانُ من الصمت الحكيم في أغلب المواقف لا يتعلّمه من الكلام. الصمت يعكس حالةَ هدوء الذات وسكينتها، يتخذه كثيرٌ من العرفاء في الأديان، خاصة الهندية والآسيوية، طريقةً لتسامي الذات، والارتقاءِ إلى طورٍ وجودي أكمل.
ارتياض العرفاء في تلك الأديان يشدّد على الصمت على وفق برنامجٍ يتكرّر يوميًا.
الإنسان كائنٌ مسكون بالأسرار، الصامت يوحي لمن حوله أنه إنسانٌ يختزن الأسرار، فيصنع له هالةً تجذب إليه بقوةٍ مَن يتعامل معه، ويستطيع أن يؤثر فيه أقوى ممن يثرثرون معه باستمرار. قوة الشخصية وسحرُ تأثيرها لا تظهر دائمًا بما تبوح به، بل كثيرًا ما تتجلى بما تختزنه ولا تبوح به.
الصمت الحكيم يوقظ في الإنسان إمكانيةَ تذوق جماليات الطبيعة، ويجعله يتحسّس نقاءَ الأشياء قبل أن ينهكها التلوث، وعبثُ الانسان وتخريبُه، وينقذه من ضوضاءِ ثرثرات أكثر البشر، وانشغالهِم اليومي بالكلام لأجل الكلام، وإهدارِهم القيمةَ الثمينة للزمن.
من ثمرات الصمت ضبطُ ميزانة الزمن، والاقتصادُ في إنفاقه بتدبير، وتنميةُ قدرات الإنسان على إدارة أعماله بواقعية، والتحكمُ بالأولويات، وتقديمُ ما هو أهمّ على المهم، والعنايةُ بما تفرضه احتياجاتُه الضرورية، واكتشافُ ما يمنح حياتَه المعنى الذي يعزّز سلامَه الداخلي، ويخفضُ إيقاع قلقه وشعوره بالاغتراب.
يهرب أكثرُ كبار السن من المتقاعدين وغيرهم من المدن الكبيرة الصاخبة ويلجؤون للأرياف، من أجل الانغمارِ في سكينةِ الصمت، وبهجةِ قراءة الطبيعة وتأملِ ألوانها المرسومة على شكل لوحات خلّابة، والإنصاتِ للغة الأرض وحديثها عن عطائها وسخائها اللامحدود، وفهمِ مناشدة الأرض بضرورة رعايتها، والحدِّ من الجور عليها، واستنزافها وتخريب توازنها الحيوي وفسيفسائها المدهشة.
تدعو الأرضُ الإنسانَ للإنصات لما تلهمه أشجارُها ونباتاتُها وأزهاُرها وطيورها وكائناتها المتنوعة في البرّ والبحر، من معانٍ تحرّر الذاتَ من وحشتها في الوجود.
مَن يريد أن يواصل تعلّمَه إلى آخر يومٍ من حياته عليه أن ينصت لصوت الأرض.كلُّ شيء يلتقيه الإنسانُ في حياته يمكنه التعلّم منه، إن أصغى بهدوءٍ للغة الخاصة الناطق بها. كلُّ شيء يتأمله الإنسانُ يتحدث إليه بلغةٍ خارج اللغات المتداولة، بلغةٍ لو أنصت إليها بتأملٍ عميق يستطيع تلقي إشاراتها الملهِمة.
يتجلى الصمتُ الحكيم كأجمل ما يتجلى في الإبداع الفني والأدبي والعلمي.
اللوحات الخالدة للفنانين هي تعبيرٌ عن صمتٍ وتأملٍ عميق، وهكذا ما يبدعه الشعراءُ الكبار من كلماتٍ كأنها صورٌ مرسومة بريشة فنانٍ عظيم.
الاختراعات والاكتشافات العلمية ثمرةُ صمتٍ تستفيق فيه القدراتُ الذهنية والإدراكية بكامل طاقاتها الخلّاقة، لترى ما لا يُرى من قوانين محجوبة عن البشر.
الصمت الحكيم استراحةُ الذهن من الانشغال بالخارج، وعودةُ الإنسان لسبرِ أغوار الذات، وإيقاظِ منابع الإلهام والفاعلية فيها. يتطلب الصمتُ ارادةً لا تُقهر، إرادة الصمت أصعب من إرادة الكلام. الصمت الحكيم يعكس قدرةَ الإنسان على التحكم بانفعالاته.
مَن يكسب الموقف، بل الذي ينتصر حتى في المعارك الكبرى، هو الأكثرُ قدرةً على التحكمِ بانفعالاته، وتحكيمِ قدراته العقلية، ووعيه بالحدودِ الحرجة للحظةِ الحرب ولحظةِ السلام، وما يتطلبه الواقعُ الذي يعيش فيه، وبراعتَه في حسابات الأرباح والخسائر، ومهارَته في إدارة التسويات، عندما لا يكون قادرًا على الانتصار وكسب المعركة على الأرض والفضاء، لئلا يخسر كلَّ شيء.
كلّما كان الإنسانُ أقوى في التحكم بانفعالاته كان أكثرَ قدرةً على التحكمِ بكلامه، وإيقاظِ الصمت الحكيم. التحكم بالانفعالات يحتاج إلى ترويضٍ متواصل للشخصية، وذكاءٍ في تفريغ الانفعالات المكبوتة فيما لا يؤذيه ويؤذي غيرَه.
الانفعالات كما يكون إعلانُها خطيرا، يكون كبتُها أخطرَ من البوح بها، لما يورثه الكبتُ من عقدٍ نفسية.
الوسيلة الأسهل هو أن يكتب المنفعلُ كلَّ شيء، ويسكب حرائقَه على الورق، وينزف جروحَه بعيدًا عن لهيب المعركة، لئلا يحترق فيها ويحرق غيرَه. الرياضة لدى بعض الأشخاص مكبٌّ لتفريغ التوتر وتصريف الغضب، وقد يفرغ بعضُهم شيئًا من مكبوتاته في الأعمال البدنية، أو القراءة، أو الرسم، أو لقاء صديقٍ حميم يبوح له بمواجعه.
طالما جرى استعمالُ الصمت بوصفه عقابًا، لحظةَ يضرب أحدُ الأشخاص عن الكلام داخل العائلة، أو في محلِّ العمل، أو مع بعض مَن يرتبط بهم بعلاقاتٍ اجتماعية، احتجاجًا على مواقف منزعج منها. هذا النوع من الصمت معروفٌ في الحياة الزوجية، فقد تصمت الزوجةُ خوفًا من ردود الأفعال العاصفة للزوج، أو عقابًا له على ما تراه إساءةً إليها، وقد يصمت الزوج احتجاجًا على ثرثرة الزوجة وهذيانها. وغالبًا ما تكون دواعي الصمت متشابهةً لدى الزوجين. وأحيانًا يُستعمل الصمتُ كموقفٍ يشي بالإهمال وعدم الاكتراث، أو الإهانة والاحتقار.
لا أدعو للإضراب عن الكلام مطلقًا، ولا تعني الدعوةُ للصمت الحكيم الكفَّ عن كلِّ أنواع الكلام، الدعوة للصمت إنما تتحقّق في مقامٍ يتطلب الصمت.
تميّز الإنسانُ عن غيره باللغة، واستطاع إنتاجَ المعارف والعلوم والفنون والآداب وبناء الحضارات باللغة الشفاهية والمدونة، ولو افتقد الإنسانُ القدرةَ على الكلام يفتقد القدرةَ على التفكير وتوليد المعاني والبناء والانتاج.
اللغة مثلما هي أداةٌ لاستيعاب المعاني وتوصيلها، هي أداةٌ لتوليد المعاني أيضًا، على وفق ما تراه الألسنياتُ الحديثة.
التواصل بين الإنسان والإنسان يتحقّق ويتكرّس باللغة، بواسطة اللغة تنشأ العلاقاتُ الاجتماعية وتترسخ، ومثلما تبني هذه العلاقات كلماتُ المحبة الصادقة، تهدمها الكلماتُ السامّة. حين تحضر الكلماتُ السامّة ينبغي أن يرحل الإنسانُ عاجلًا ليتخذ من الصمت مقامًا.
مثلما يكون الصمتُ الحكيم ضروريًا أحيانًا لتربية الذات، يكون البوحُ ضرورةً يفرضها سلامُ الذات، وترويحُ النفس المتعبة لحظةَ لقاء المحبين. الحُبّ يتطلع على الدوام لإعلان المحبِّ عن أشواقه وولهه بمحبوبه.
الحُبّ ينشد حضورَه وتنميتَه بكلمات المحبة الصادقة، الصمت لا يغذّي الحُبَّ ولا يثريه، يذبل الحُبّ إن كان أحدُ الحبيبين مُضرِبًا عن الكلام. البوح بالأشواق وبهجة لقاء المحبين ضرورةٌ لتغذية وتنمية المحبة وتكريسِها،كلماتُ المحبة الصادقة توقظ المحبة، ويرويها التعبيرُ عن الأشواق ولهفة اللقاء. وتعصف بها وتزلزلها الكلماتُ اللامسؤولة، وردودُ الأفعال العاصفة.
يحتاج الإنسانُ البكاء، وإعلانَ الحزن بأساليب متعارَفة في مجتمعه، للتنفيس عن نكبةِ فقدان حبيب، أو فجيعةٍ تعرّض لها.
يحتاج الإنسانُ للتحدّث عن مواجعه وآلامه وهمومه، لمَن يجده ملاذًا يحتمي فيه.كبتُ الحزن وإكراهُ النفس على ما لا تطيق شيءٌ والصمت شيءٌ آخر، الكبتُ في مورد يطلب التعبيرَ عن مرارة الحزن يورث العقدَ النفسية. الإنسانُ الاستثنائي فقط يمكنه كبتَ أحزانه المريرة أحيانًا.
يُستعمل الصمتُ في بعض الأمراض النفسية بوصفه علاجًا، وكثيرًا ما يُستعمل الاعترافُ واستدعاءُ المكبوت واللاواعي في العلاج النفسي. الخطوةُ الأولى في العلاج هي اعترافُ المريض النفسي بأنه مريضٌ.
تفرض الضرورةُ العلاجية في التحليل النفسي التحدثَ عن الذكرياتِ الموجعة الغاطسة، والجروحِ المنسية، والعقدِ النفسية المطمورة في اللاوعي، لتفريغِ ما هو مكبوتٌ في الأعماق، وتفتيتِ ما يثير الاكتئابَ والحزن والفزع، وما يتسبب في اضطرابات نفسية. المعالج الذي يعتمد التحليلَ النفسي وتفسيرَ أحلام المريض، يعتمد التداعي الحرّ لاستحضارِ الذكريات المؤلمة، وإخراج ِما هو غاطسٌ منذ زمن بعيد، بغيةَ تحرير المريض مما يختبئ في أغوار النفس.