محمد طهمازي
"إن المتع والشهوات محض أوهامٍ وخيالاتٍ، والتأسف على إضاعتها سلوكٌ ينمّ عن صغر العقل وضيق الأفق، فضلاً عن كونه سلوكا مُستغْربا" آرتور شوبنهاور.
ليست كل متعة هي متعة منبسطة في تأثيرها الداخلي كما لا يكون كل ضياع هو ضياع في أثره في النفس، لذا أرى كلا المفهومين ضمن قائمة المتغيرات التي تتحول في وقعها بأشكال وصور مختلفة من شخص لآخر ومن زمن لزمن اشتعالا وأفولا وربما جذبا أو نفورا.
لا يمكننا انكار الحرفية العالية والمدهشة التي ينفذ بها ياسر نبايل لوحاته.. ومع أن كثيرا من النقاد يرى اهتمامه بثيمة الألم ومعاناة الإنسان في اغترابه النفسي الداخلي وفي غربته الخارجية في هذا العالم المبهم بصراعاته ومآلات وجوده، فأنا أجد أن رؤية أعماله بهذه الرتابة "الألمية" لهو نحو سطحي إلى حد ما، حيث أن التوكيد على الجانب الدرامي يصبح فعلا روتينيا حينما نقرأ اللعبة التشكيلية التي يعمل عليها نبايل بحرفية بالغة. ولسوف يتساءلون، بامتعاض، عن غايتي من مخالفتهم ومداها النقدي التحليلي.. ليس كل متناول للوجع هائم في سوداويته في كل تفصيلة من حياته لأن هكذا فعل يوجب النهاية المحتومة للفنان وأي إنسان آخر.. عندما يعاني الإنسان من الجوع سيصل الى مرحلة يتوقف فيها جوعه، حينها يكون جسده قد بدأ يأكل جسده.. وهذا ما يحصل مع ياسر. لقد توقف الألم لديه منذ لوحة بعيدة ومن يومها وهو يعيش متعة الألم لا عن تبلد مشاعر ولكن عن تغلب على الآلام والانتقال للاستمتاع بوخزها الروحي عبر تحويله لمتعة فنية مدهشة توصل رؤيته الإنسانية بمستوى عال جدا من الرقي والتأثير في آن. إجعل ما يؤلمك نوعا من الوهم الذي تصنعه هذه الحياة التي قد تكون قد انتهت منذ ملايين السنين في عالم الغيب ونحن نعيش ونتصارع ونوجع بعضنا في ترددات صداها الذي لن يلبث أن يتلاشى ونتلاشى معه يوما ما.
إن الكائن الإنساني هو فكر متجسد وكيان من الكيانات التي تسبح وتؤثر في معطيات هذا الوجود، ونحن نتواصل مع ما ومن حولنا عن طريق أجسادنا، بدليل أننا ساعة نلتقي بأمثالنا من الكائنات فنحن نتعرف عليها أول الأمر انطلاقا من ملامحها وحركات وإشارات ترسلها أو تظهرها أجسادها، حيث يشكل الجسد البوابة الأولى نحو عالم الآخرين، مزودا إيانا برؤى وانطباعات مهمة عنهم. وهذا ما يراه الفيلسوف الألماني ماكس شيلر في نظريته عن كون الجسد كتلة مادية وروحية نفسية واحدة لا يمكن أبدا فصلها أو تقسيمها، جسد باطنه وظاهره واحد، فما تظهره أجسادنا التي هي نحن إنما هو إعلان عما نضمره. لذلك يشكل نبايل الجسد في لوحاته سابحا مع ما حوله متورطا في لعبة قلقة من تصارع وتناغم عناصر المحيط محاولا الإحاطة بكل قواه لكي يستطيع التحكم بها ويهرب من حالة أن تتحكم به، إنه حلم يدوي في لاوعينا منذ دهور سحيقة. إن الإنسان يحمل في جانب منه طبيعة إلهية أو لنقل سماوية لذلك يتمرد في كثير من الأحيان على ما يمكن أن يتحكم به أو يسيطر عليه وفي ذات الوقت يحمل قدرا كبيرا من العطف والرحمة والتواصل المشاعري مع كل حالة ألم أو مأساة أو ظلم. ربما يكون هذا هو الضمير أو الإحساس الأبوي نحو كائنات هذا العالم وعناصر طبيعته الذي يسكن عمق ضمير الإنسان الحقيقي على عكس تلك المسوخ التي لا تنفك توجد الخلل تلو الخلل في نظام هذا الكون محطمة ومشوهة الجانب
الروحي فيه.
الموت فلسفة لونها أحمر لكن ياسر يرى أن داخل هذا اللون المثير تولد إشارات سلام مع الذات والمحيط، رموز تجاهد كي تحقق كياناتها وسط هذه الحتمية من الفناء، وتحاول التغلب على فكرة الصراع الجسدي كي لا يكون الجسد سجنا للروح، يعتاش الكهنة وأتباعهم وأمثالهم من السلطويين على عقدته ناشرين نسخه في كل تفصيلة من هذه الحياة.. نحن أحرار ولا حاجة للموت كي يحررنا، الموت هو بوابة انتقال، عتبة تحول نحو كيان فلسفي آخر فآخر.. عملية ترويض للذات حتى تصل إلى كم عظيم من الخبرات، المؤلمة في أحيان، التي تبلغك عالم الحقيقة.
يرسم نبايل الكثير من المسارات والإشارات التي تشكل خرائط الطرق الكثيرة، المحفوفة بفخاخ الألم، التي توصل لهدف مجهول ولربما معلوم نعيه ولا نعرف أننا نعيه، ناثرا علاماته التحذيرية المحفزة على تجاهلها، مركزا على مساحات قد تكون مصدرا للتشويش أو هو يدلك على عدم التخلي عنها أو السعي لفهمها.
"إن ألمنا الشخصي ليس أثقل من الألم الذي نعانيه مع الآخر ومن أجل الآخر وفي مكان الآخر، ألم يضاعفه الخيال وترجعه مئات الأصداء" ميلان كونديرا.