ماذا لو كان المجنون شخصيَّة قصصيَّة؟

ثقافة 2024/07/23
...

 مصطفى أحمد

 

منذ بدء التأريخ، كان المجنون صنفًا يتميّز لوحده ويُعزل عن الآخرين كونه أدنى وأقل منهم.

الكل اعتبروا الجنون شذوذًا يوجبُ على صاحبه الطرد والبُعد، والعزل والمعاملة بالتعالي. لكن الفلاسفة منحوا الجنون مكانة غريبة لو اطلع عليها العامة، لأكّدوا أن الفلاسفة مجانين كما يُشاع عنهم، وهُم يدافعون عن أنفسهم عندما كتبوا عن الجنون.

فكتب فوكنر كتابًا كاملًا يتحدث فيه عن تاريخ الجنون، ولدينا في العراق أيقونة يُشار إليها عند ذكر الجنون والمجانين، وهو الكاتب خضير ميري.

أما عن الأدباء فقد وظّفوا المجنون كشخصية يقولون عن لسانه ويحرّكون القصة من خلاله. فعندما ننظر لغوغول نرى مجموعته "يوميات مجنون" تناقش المجنون كشخصيةٍ رئيسية. وفي العراق عادة ما تكون شخصية المجنون مرغوبة لدى القاص، ومحبوبة عند القارئ. 

اختيار الشخصية ليس بالضرورة أن يكون عن عمد للدلالة على شيء أو فكرة معينة خارج القصة نفسها.. إن القصة الحقيقية عادة ما تفرض نفسها على الكاتب، وبالتالي فإن اختيار الشخصية قد يكون فكرة القصة نفسها، أو أن القصة تدفع الكاتب لاختيار شخصية معينة غاية في انجاحها.

أما عن دلالة الشخصية لقضية أو فكرة معينة، فهذه يأت ادراكها بعد الانتهاء من القصة، أو حتى بعد أن يدلي القارئ أو الناقد بها. 

إن خزين القاص هو حياته، طفولته، ذكرياته وحتى عمله ودراسته، وهو ما يصبّ نفسه ويشكّلها بصورة مختلفة في كل مرة من دون وعيٍ كامل منه، لذا نجد أن القصص التي تختار كاتبها تبدو واضحة في ذلك، وهي أكثر تماسك وسحرا من القصص التي يختارها الكاتب، حينما تكون القصة أداة فإنها لا تقدم شيئا، أما إذا اصبحت غاية وتُكتب لأجل الكتابة نفسها، فإنها لن تُهمل دور الأداة، بل ستكون مؤشرًا حقيقيًا وواضحًا للرؤية التي تُكتب من خلالها، وهذا ما يظهر بعد الانتهاء من كتابتها، او بعد قراءتها من المتلقي كما أشرنا سابقا.

يمكننا أن نقول ببديهية إن السرد الحديث يعتمد على تدمير الشخصية التقليدية وطرح بديل عنها."1" لذا فإن استخدام المجنون كشخصية في القصة أو الرواية قد يدل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على انهيار الإنسان العاقل وعدم جدواه، والتعبير عن رفض "التحرّكات" العقلية المنطقية، وكذلك كسر حاجز التعبير العقلي عن القضايا والرجوع للفطرة والموقف المجرّد من كل المبادئ، فقد تكون كثرة المبادئ أضرّت باتخاذ الموقف الحقيقي الصارم، والهرب من طرح الآراء الحاسمة من دون تأثير المعايير الايديولوجية على الإنسان المقيّد بها.

وهنا يبدو لنا أن الكاتب الذي يستخدم المجنون كشخصية يشير لعدمية فائدة العقل بعيدًا عن فطرته وتلقائيته، بل قد يتجاوز ذلك ليقول إن "المجنون يرى الأمور بشكل واضح وبعيد عن كل الفلاتر التي يضعها العالم الجديد وقيوده"، وبهذا يكون المجنون أكثر عقلانية من العاقل نفسه.

في القصص الجيدة، فإن الشخصيات تُعرض من خلال السلوك.. والسلوك هو كل التجربة المعروضة. "2" وأن استخدام المجنون المجهول الذي يظهر من العدم ويختفي فجأة، يكون أسهل للتعبير عن آراء الكاتب الذي يخاف أن يقولها عن لسان شخصياته العاقلة، فإنه بهذا يتجنب الوقوع في اشكالية إهانة الاسم أو مكانته العلمية أو الوظيفية التي تكون فيها الشخصية العاقلة.

وقد تكون الغاية من استخدام شخصية المجنون هي لفت النظر أكثر، والتركيز على ما ينطق به ويتصرف بعيدًا عن الأسباب التي قد تدفعه لذلك، فشخصية المجنون لا تملك دافعًا ايديولوجيًا أو مادّيًا أو أية غاية لذلك، فكما أشرنا أن رمزية المجنون هي تجرّد من كل القيود والصبغات التي تكون في الشخصية العاقلة، وبالتالي فإن تركيز المتلقي سيكون في ما ينطق به أو يتصرف بصورة دلالية، لذا فإن هذه الشخصية ستختفي فيما بعد.

أما عن استخدام المجنون كشخصية ثانوية، فقد يكون أشدّ خطرًا وقوّةً في بعض الأحيان، فهذه الشخصية هي ما ستكون المُصحح وما يُلفت نظر الشخصية العاقلة للطريق الصحيح، أو لما يجب فعله، وهنا فإن المعيارية التي تطرحها الايديولوجيات ستكون خاوية ومتهرّئة أمام الآراء المجرّدة التي يدلي بها المجنون هنا.

فقد يجري تصوير شخصية ثانوية غير متميزة وجامدة لكي يمكن تصوير السمات المتميزة للشخصية الأولى، تصويرًا واضحًا، بطريق المقابلة [فالضد يظهر حُسنه الضد] ونمو الشخصية المتطورة قد يُقاس بالنبات الذي يمثله الشخص الجامد. "3"

ولا يشترط استخدام المجنون لهدم الايديولوجيا أو رفضها وإحلال البديل الفطري لها، بل قد تُستخدم للتعبير عن قوّة وصحّة الفكرة التي يوافقها المجنون ويباركها بفطريته، وهذا ما قد نراه في التعبير عن الحب، فإن لقب "مجنون ليلى" لا يُعتبر إلا اسقاطة تُعبر عن شدّة صحّة ونقاء الحُب الذي يمثّله قيس.

في قصة "النافورة وحلم الصيف" يُظهر لنا موفق خضر "4" صفتين أساسيتين لمجنونه، الأولى هي الرأفة والحُب والرقّة تجاه حمامته والاهتمام بها، غمرها الحنان واتخاذها كخليلة له يهرب من خلالها من أخيه وواقعهم السيئ الذي يعيشه. أما الصفة الثانية فهي "العقلانية" أكثر من أخيه الأكبر الذي يداوم نهره وضربه واتخاذ الحل الأسلم للحدّ من النزاعات التي قد تنشأ بينهم والابتعاد عنه ليدخل في جوّ المجتمع الخاص في المقهى والنافورة. وبدون هذه الحمامة التي تُبقي "حسّان" في هذه الحال التي رسمها له الكاتب، لا يكون لوجوده أي لزوم، وبالتالي فعندما طارت بقي ينتظرها، والنافورة نفسها التي تُمثل له الحياة، أخافت الحمامة وطارت من دون رجعة، فرجع لاستخدام النافورة التي أوصلت حمامته للمجهول، ليُغرق نفسه فيها متخذًا منها بوابةً نحو العدم. 

القصة التي يكون المجنون رئيسها، قصة برّاقة، مميزة، غريبة، بل وحتى جذّابة. فالمجانين هُم أوتاد المُدن، يباركونها ويحافظون على استقرارها.


________

١.  في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد) – عبد الملك مرتاض

٢. عن كتابة القصة القصيرة – مجلة الثقافة الأجنبية – العدد الثالث – سنة 2000

٣.الوجيز في دراسة القصص – ترجمة عبد الجبار المطلبي

٤. قصاصون من العراق "دراسة ومختارات" – سليم عبد القادر السامرائي – سنة 1977