الهدم وإعادة البناء

ثقافة 2024/07/31
...


تروي أوساكي 


ترجمة :علي رحمن







في مقابلة أجريت معه في بودكاست “بين الأغلفة” الذي يقدّمه ديفيد نايمون، يوجّه كافيه أكبر المستمعين إلى الوسائل التي من خلالها يمكن للشعرية أن تكون ثورية:

ينبغي أن يوجد شيء يُقلَّب، ثم ينبغي أن يقام شيء في مكانه. من السهل جدًا أن تسكن في درع الخطاب الثوري دون تقديم أي شيء جديد. 

هذا، في حد ذاته وبحكم التعريف، ليس ثوريًا لأنه لا يوجد إعادة بناء. لا توجد إشارة إلى إعادة بناء.



أتأمل في فهم أكبر الواعي لإمكانيات القصيدة - معنى أن تكون الكتابة في اتجاه الثورة. كيف أنَّ الكتابة وحدها قد لا تكون كافيةً. وكيف أنَّ ما هو مطلوب للثورة على الأرجح يتجاوز الصفحة.


في وقت آخر من نفس المقابلة، يواصل أكبر شرح تعريف العمل:

أفكر كثيرًا في التعريف الفيزيائي للعمل، وهو القوة التي تسلّطُ على جسم لتحريكه. إذا سلطت قوة على جسم ولم يتحرك شيء، فهذا ليس عملاً. وبالمثل، إذا تحرك شيء ما، لكنك لم تُسلّط عليه قوة، فأنت لم تقم بعمل.



أتذكر أحد رفاقي المقربين - العمل الشعبي الذي عمله، العمل الذي عرّفني عليه، والعمل الذي نقوم به جماعيًا. كيف أنه عاد قبل شتاء مضى بعد قضاء شهر في ريف الفلبين بين الفلاحين المعدمين.

حيث لم يستطيعوا تحمل تكلفة الأرز الذي يزرعونه، وخاضوا صراعًا لإنشاء بلادٍ تُمنح فيها الأراضي لمن يزرعها. 


معًا، تحركوا وطالبوا بإنهاء معدلات الإيجار الباهظة، وأسعار الفائدة المستحيلة، والأجور البائسة التي يفرضها النظام الإقطاعي الحالي. إنهاء لملكية كبار ملاك الأراضي لأيديهم وظهورهم المحنية.


ومن ذاكرته، يشارك واحدة من أعز ذكرياته حين حصل أحدهم على قبضة من التبغ. 

توقف الجميع عن أعمالهم. احتفلوا. 

توجهوا إلى الحقل ليدخنوا “يوسي” (لفائف تبغ محلية) تحت أشعة الشمس. وعندما احترقت آخر ورقة يلف بها التبغ، قدم رفيقي صفحات من دفتر يومياته التي كتب قصائد عليها. شاهد مقاطع الهايكو القصيرة تتحول إلى سجائر بحجم الأغصان، واستمع إلى أصواتها وهي تتفحم فوق عود ثقاب مشتعل.


أستمع إليه وأتخيل كل ما يحيط به - علبة تونة مفتوحة على الأرض، قميص يغرق بالعرق يجف على غصن، والقصائد التي خصصها لأولئك الذين يدخنونها تتلوى في الهواء. 


أفكر في ما يتقلّب وما يُعَدُّ - نظام قديم يسقط من أجل نظام جديد. كيف، في فكرة الشعر الثوري، لا يمكن حصر القصيدة في الصفحة وحدها. كيف، في مرحلة ما، لكي يقوم بالعمل الشاعر، وربما القصيدة نفسها، تكون الحاجة إلى تحريك شخص أو شيء ما - في الحقول والمزارع.


بالنسبة لي، ما أعتبره مهمًا بنفس القدر هو تحفيز الناس للعمل مع الآخرين. هذا هو المكان الذي رأيت فيه القصائد تتحرك بأكثر الطرق ثورية. حينما لم تعد مجرد قطعة ورق، ولكنها فجأة تنبض بالحياة- تجلب مجموعة من الناس يكافحون من أجل تحسين حياة الآخرين.


يبدو أن أكبر يتشارك هذا الشعور أيضًا. يغوص في أمثلة تأريخية لكتاب أثروا في أجيال من الناس، ليس فقط من خلال كتاباتهم، ولكن أيضًا من خلال تنظيمهم:

فلو كانت الكتابة الثورية هي الكتابة التي تُنجز المهام، فمن المثير للاهتمام بالنسبة لي أن أنظر بعين الاعتبار إلى الطرق التي فعل بها الناس ذلك تأريخيًا، وحاولوا القيام بذلك. لقد ذكرتَ جون جوردان التي كتبت قصائدها، ثم اتجهت للتنظيم.


كانت القصائد تُشير إلى تنظيم مكمَّلٍ ومقوّم، لكنها لم تستبدله.

ما يقدمه أكبر هنا يبرز كدرس لا ينسى بالنسبة لي: القصائد لا تحل محل التنظيم- بل تكملها. وهذا يعني، في فكرة الشعر الثوري، أنَّ القصيدة ليست أساسية؛ التنظيم هو الأساس.


يوضح أكبر أكثر:

تحتوي قصيدة “آني ألين” للشاعرة جويندولين بروكس على سلسلة من القصائد بعنوان “أطفال الفقر”. القصيدة الثانية أو الثالثة في تلك السلسلة تسمى “القتال أولاً، ثم العزف” ، وهي أربع كلمات تلخص بشكل نظيف ما أتحدث عنه. “أنت الذي تؤدي العمل”.


يوضح أكبر أكثر:

تحتوي قصيدة “آني ألين” للشاعرة جويندولين بروكس على سلسلة من القصائد بعنوان “أطفال الفقر”. القصيدة الثانية أو الثالثة في تلك السلسلة تسمى “القتال أولاً، ثم التزيين”، وهي أربع كلمات تلخص بشكل نظيف ما أتحدث عنه. “أنت الذي تؤدي العمل”.


تؤدي العمل، ثم يمكنك بعد ذلك تزيينه، أو يمكنك كتابة قصائدك عنه أو أي شيء آخر، لكن لا تخلط بين أحدهما والآخر. يبدو هذا أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لي في فهمي الوليد والناشئ لهذه الفكرة.


تذكير أكبر بعدم الخلط بين “التزيين” و”القتال” بسيط ولكنه أساسي. إذا كان كل ما يمكننا تقديمه للأشخاص الذين نناضل من أجلهم هو قصيدة نكرسها لهم، فماذا سيأتي منها؟ وهذا لا يعني أنَّ الفن والأدب ليس لهما دور في الثورة. وأنا أؤمن بدوره. وأعتقد أنَّ أكبر يؤمن بذلك. 


ومع ذلك، ما أعتقد أنَّ أكبر يشرحه هنا بشكل موجز وواضح هو أنَّ هناك حاجة إلى ما بعد كتابة القصائد. هناك حاجة لتأدية ما بعد القصيدة.


قرأت مجموعة أكبر الأخيرة، “جرس الحج”، بأمل وحماس لما يمكن أن تقدمه، وما قد يكون قد قدمته بالفعل- المحادثات، العمل. 

في قصيدة “إمبراطوريتي” يكشف المتحدث عما هو قادر عليه بسهولة وما يعطي الأولوية له:

كلما تعلمت شيئًا، يغضبني أنني تعلمته.


يمكن للصواريخ الجديدة اكتشاف دقات قلب ذبابة فوق كومة من الأنقاض من على بعد 6000 ميل. 

للذباب قلوب، 104 خليات كبيرة، تنبض. 

وبسبب هذه المعرفة: تكومت الأنقاض.

ما أنا ممتن له هو حتى مع فهم الشعر الثوري، فإنَّ مستوى شعر أكبر لم يتضاءل. في الواقع، تعمق هذه الشعرية إمكانية القيام بالعمل.


بينما يقدم أكبر أفكارًا منهجية عن الإمبريالية والإمبراطورية التي يمكن أن تشعر في كثير من الأحيان بأنها كبيرة جدًا يصعب فهمها، يعيدنا أكبر إلى الشخصي لتذكيرنا بأنَّ هذه الأنظمة ليست منفصلة عن الحياة التي نعيشها.


في قصيدة “المعجزة”، يتعمق المتحدث: في مكان ما يقود رجل طائرة آلية نحو القتل... لم يشاهد الجثث مطلقًا، التي يشير لها غيابها. مثل الريش على طائر ورقي.

ثم، في غضون 4 - 5 أسطر، يقترب المتحدث. 

تنامين وأنتِ تواجهين النمش على معصمك.


تقدم هذه الصور جنبًا إلى جنب تذكيرًا بمدى قربنا من أنظمة العنف والضرر التي يمكن أن تكون خاطئة كلما ابتعدنا. كقارئ، أشعر بالحاجة إلى السؤال عن سبب حدوث ذلك، والأهم من ذلك، ماذا بعد الآن؟

على الرغم من أنَّ الأسئلة وحدها لا تؤدي بالعمل، إلا أنَّ طرح الأسئلة هو الذي يؤدي غالبًا إلى الخطوات الأولى في حل المشكلة.


من خلال هذه الأسئلة ، وقراءة “جرس الحج” والاستماع إلى “بين الأغلفة”، ابتعدت عن عروض أكبر وأنا أفهم الحاجة إلى كل من الشعرية والشيء الأكبر. كيف أن العمل يأتي أولاً، إلا أنَّ تأثير القصيدة يمكن أن يحدث فرقًا في كيفية تنفيذ الثورة.


ليس الأمر مسألة اختيار أحدهما على الآخر، بل بالأحرى، في فكرة الثورية الشعرية، نسأل كيف يمكننا الاستفادة من القصائد لدفع عجلة عالم يُدفن فيه الاستغلال والقمع- من الريف إلى المدن- في قبر.

أجلس مع آخر قصيدة في مجموعة أكبر، “القصر”، وأحلم بالعيش بعد هذه الأنظمة الوحشية. يتركني أكبر بتذكير أخير:

الفن هو حيث نجاةُ ما ينجينا. 


——————

تروي أوساكي هو شاعر من أصل ياباني ومنظم ومحام من سياتل، واشنطن. بطل مسابقة الشعر الارتجالي ثلاث مرات، حصل على زمالات من كونديمان ومنزل هوغو ومركز جاك سترو الثقافي.