السؤال المعني بالأخلاق

ثقافة 2024/07/31
...






ميثم الخزرجي





لم تلعب الصدفة دورها في نشأة الجنس البشري، وطريقة تعاطيه مع المحيط الخارجي واستقباله لمخرجاتهِ المعنية بطبيعة الطقس العام وما يتضمنه من سياقات اجتماعية أو سمات ثقافية، تعضّد من ماهية الفعل الحياتي الذي يقوم به، لتسهم هذه السمات في تكوين منظومته الأخلاقية والقيمية وتضيء حقيقته الوجودية وجوهره النسقي، فيتماهى الإنسان عن طريقها مع الواقع وينسجم مع مؤثراته،

 ولعلي أجد أن طبيعة النزعة الإنسانية التي تضم الضوابط العرفية بكليتها، تكشف عن تعريف الطابع الجنساني أو السلوك البشري الذي يدير شأنه، لذا فإن تمثلات الجانب القيمي للإنسان بوصفها وحدة ثقافية تكون مجتزأة من الوحدة العضوية الشاملة لماهية المجتمع ونظامه المعرفي، الذي يعنى بصياغة المفاهيم التي تحرّك الواقع وتحيط بتفاصيله من حيث اللغة باعتبارها أداة التواصل وما تستخدم من تعابير منطقية لها دلالتها في كيفية التجاوب مع الآخر.

 ما يعنينا هنا هو حقيقة المعنى الجوهري للأخلاق، وجذرها البنيوي، وأصلها القيمي وماهية استحصالها على وفق مقدرات الواقع، وهل مصداق الخير والشر وما يحمله من مؤهلات إنسانية تخضع لمعايير وقوانين غيبية لاهوتية؟ وكيف ينظر الإنسان المعاصر إلى المنظومة القيمية والأخلاقية، بعد أن تداخلت الثقافات وانكشفت مضامين العادات والتقاليد، مشكلة سياقا سوسيولوجيا معيّنا يحيط بنية الإنسان؟ وهل الأخلاق ثيمة مجتمعية نستقي أثرها عن طريق الدربة والممارسة، لنستخلص غايتها من خلال التعامل، أو هي جوهر نسقي يتوالد جينيا؟ وهل من الممكن أن نستحصل عليها أكاديميا باعتبارها تقترن بالعلم؟ لعلها تدار من قبل العقل، أم هي فطرة تحتكم لعنصري الوراثة وتمظهرات البيئة؟ كيف لنا أن نقرأ التاريخ العالمي من منظور أخلاقي، ونعيد مقرراته على وفق الحروب والعراك الطائفي والإثني؟ وما هي البراهين التي نعيّن أو نصوّب عبرها المنظومة الأخلاقية لمجتمع معين، وأن نستكشف حقيقته الفعلية؟ كيف لنا أن نصف دعوة سقراط حول مفهوم الفضيلة التي ذكرت في المحاورة الجدلية بأنها علمٌ؟ وإذا توقفنا عند مقومات الفضيلة وصفتها الأخلاقية سنجد إنها لما تزل – بحسب رؤية سقراط هذه - ماثلة للدرس والمناقشة للوصول إلى قيمتها العليا، هل في ما معناه أن كل ذي دراية علمية يمتلك الأخلاق؟ ماذا يعني أن ننشأ في عالم مثالي معافى من التصحر القيمي؟ وهل يتحقق ذلك فعلا بعيدا عن القوانين الوضعية أو الأحكام الغيبية التي تقاضي الإنسان على وفق اعتبارات الجنة والنار وأنساقها المؤثرة في مجريات الواقع؟ هل يسعى الإنسان إلى امتلاك الأهلية من تلقاء نفسه أو ثمة عوامل تحرّضه على أن يسلك مساراً قيميا آخر؟.

لا شك أن السنن والتعاليم اللاهوتية أو المعارف الجدلية على اختلاف صنوفها ومذاهبها، تقوّم الإنسان بحسب منهجها المعني بها، وهذه بصورة عامة بعيدا عن نظامها الداخلي وتوجهاتها العقائدية، فالسرقة والكذب والاعتداء على الآخر من دون وجه حق وحرية التعبير المشروطة، وكثير من الأنماط التي تؤثر في طبيعة الفرد وتزعزع من قيمته، تكون من ضمن جوهرها المتخذ، ثمة من يسأل، بما أن الأديان بعموميتها تمنح الحصانة الأخلاقية، لماذا إذا هذا الاقتتال والعنف والحقد الذي يدخر في المجتمعات على مرّ العصور؟ كوننا نجد أن السمة الأكثر بهاء في حقيقة الأخلاق هي احترام حق الآخرين، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية واعتقاداتهم الدينية، فمن الطبيعي أن نعيد النظر في هذا المفهوم، وقد نجد أن كثيراً من المباحث المعرفية أوكلت اهتماما له على وفق حقيقة ما تتبناه. 

يرى أفلاطون أن الأخلاق هي الوعي في كيفية التغلب على الشهوات والغرائز التي تحطّ من قدر النفس، مشيراً إلى أن الروح أكثر أهمية من الجسد وما مقدّر للإنسان من نوازع الخير أو الشر، فإن الجسد أولى بتحمل الوزر، فهو الذي يغوي النفس ويودي بها إلى الهاوية، فقد أوجز هذا الرأي في ثنائية النفس والبدن، الذي اعتبر أن البدن حاجزٌ بين النفس والفضائل، وهذه رؤية تحتاج إلى إعادة نظر، ذلك أن الجسد مجرّد أداة تَكتب ما يملى عليها، ولعلي أجد أن أي فعل يرتكز على بعدين، الأول ذهني يأخذ مقرراته من العقل، والثاني روحي يعنى بالمشاعر والأحاسيس، بينما نلاحظ أرسطو موضحا مفهوم الأخلاق بأنها المزاولة أو الممارسة التي تنضوي في الضمير الإنساني، لتجعل من السمات الحسنة أو الشريرة عادة مؤصلة في النفس البشرية، وقد اقترنت بالسعادة كونها عملية اتباعية ومراتب عرفانية تتجلى في هذا المجال، أما العقلانيون ومنهم ديكارت فقد أكدوا أن العقل هو الذي يستخلص الرؤية التي تقوّم جوهر الإنسان، بل يشرّع ويصوغ بنية الفرد الأخلاقية والقيمية، لذا فإن الأخطاء البشرية التي تحدث ناجمة عن عدم جاهزية المنظومة الفكرية للتعاطي مع الأحداث بصورة صحيحة، وهنا يشير إلى أن الأخلاق ليست المنع من الشهوة أو الغريزة، بقدر ما هي السيطرة عليها والحد من تماديها، لتكون الإرادة القائمة على قانون عقلاني هي التي تدير حياة الإنسان بموجب سنن ونواميس، والتي يستطيع من خلالها أن ينظم سلوكه، بينما يتخذ كانط من “الضرورات الإلزامية” دافعا لتشكيل المنظومة الأخلاقية التي تكوّن معيار الفرد القيمي، بوصفه مفهوما ديالكتيكيا يُفرض من العقل، وقد جاء متفقا مع ديكارت في هذه الجنبة.

واقعا أجد أن الأخلاق مزية ذهنية قد تشترك العاطفة في تهيئتها، لكنها ترتبط ارتباطا كلياً بالعقل من ناحية وجهتها وتعظيم شأنها، فقد تجد أن ثمة إنسانا يحمل خصلة الابتذال في أنساقه المضمرة، لكن باستطاعته أن يجابه سطوة النسق وتطويعه عن طريق إرادة العقل، وأن يتعاطى مع مجريات الواقع عبر جهازه المفاهيمي، لذا فإن رواد المدرسة العقلانية أكثر إقناعا في كيفية حيازتهم للقيم الأخلاقية، وماهية تدوير مخرجاتها على أرض الواقع .