تأويليّة فكرة الوحي لدى بول ريكور

ثقافة 2019/06/15
...

د. رسول محمد رسول
 
 
في سنة 1976، وبعد عام على صدور كتاب (الاستعارة الحيَّة)، ألقى ريكور محاضرته “تأويليّة فكرة الوحي”، التي يتبدّى فيها - ريكور - جريئاً في تناوله لإشكالية الوحي بالنصوص المكتوبة أو ما أسماه محمد محجوب بـ “التأويليّة الكتابيّة” في كتاب (مقالات ومُحاضرات في التأويليّة، هامش 2، ص 139)، وهي المُحاضرة التي تمَّت عملية نشرها في سنة 1977؛ ففكرة الوحي قد تبدو مُخيفة بسبب العتمة التي طالتها وفق جدالات 
كاذبة مرّت؛ 
ولذلك يستشعر بول ريكور محنة ما هو مُقبل عليه، لكنّ رحابة صدره وشجاعة همّته جعلاه يمضي بلا تردُّد لما له من حصافة الركون إلى النصوص الدِّينية الكتابيّة حتى يدرس، في محور أول، التعابير الأصلانية للوحي من خلال خمسة خطابات هي: الخطاب النبوي، والخطاب السردي، وخطاب الأوامر، وخطاب الحكمة، 
وخطاب النشيد. 
أما في المحور الثاني، فيقدِّم إجابة لفلسفة هرمينوطيقية عبر تأمُّل عالَم النص - الجديد، والتفكير المتوسِّط والشهادة حتى ليبدو أن ريكور يروم، في هذه المُحاضرة، الدفاع عن مفهومٍ للوحي مثلما الدفاع عن مفهومٍ للعقل، بحيث إن كلاهما ينخرط في “جدلية حيّة” من شأنها توليد ما يُطلق عليه “تعقُّلاً للوحي”
 (نفسه: ص 140). 
وفي كُل ما سيقوله تفصيلاً إنه يريد العودة إلى الوحي برؤية عقلانية تزيح التفسيرات والتأويلات التي تفقد بها الجماعة الإيمانية “روح الطابع التأريخي لتأويلاتها، وتضع نفسها تحت سُلطة الملفوظات الجامدة للتعليم” (نفسه: ص 141). إنه بصدد نقد الفهم المتحجِّر للحقيقة الدَِّينية المُنزَّلة من دون إنكار “خصوصيّة العمل المذهبي؛ لا في المستوى الكنيسي، ولا في مستوى العِلم الثيولوجي” (نفسه: ص 141)، لأنه يميل إلى شهادة الإيمان التي لا بد أن يُمارسها الإنسان المُستنير ذاته الذي يُفسر النصوص المقدَّسة ذاتياً لفهم ذاته، وبذلك نُحقق العودة إلى ما اسماه ريكور “أصل الخطاب الثيولوجي” (نفسه: ص 142)، ليصدح برؤيته التي يلخِّصها على النحو الآتي، وهي أنه يتوجّب الالتفات إلى “النظر نحو الأشياء المسرودة نفسها بدل الالتفات نحو السارد والهامس في أذنه” (نفسه: ص 146)، والسارد هنا هو “الوسيط الناقل”، هو “الكنيسة”، التي لا يريد لها ريكور التدخًّل بين النص الدِّيني الموحى به كأصل وقارئه، بين الوحي ومتلقِّيه الكنسي المؤسساتي، إنما يريد من التأويل الانصراف إلى النص المصدر الأصل مباشرة لتحصيل إيمان فرد خالٍ من الوسطاء سوى ذات المتلقِّي مباشرة لأصل قول الوحي في محاولة منه للتوجُّه نحو “أثر الإله في الحدث” (نفسه: ص 148)، وههنا نجد أنفسنا بصدد مُمارسة لتأويل الوحي ذاتياً كمعاناة حتى يأتي دور الحكمة التي “لا تعلّمنا كيف نتجنَّب المعاناة، ولا كيف نجحدها بالطلاسم، ولا كيف نغطِّيها بالوهم، هي تعلّمنا كيف نتحمَّل، كيف نُعاني المعاناة” (نفسه: ص 154) ليصبح الفهم، وبالتالي التفسير والتأويل، ضرباً من التجربة الباطنية وليس مجرد تعامل مع نص موحى بشكل صوري جاف. 
ومن هنا، يسوق لنا ريكور خلاصة تنظيراته في ضوء “العّتمة الكثيفة” (نفسه: ص 165) التي يفترضها حول مفهوم الوحي رغم أنه لا يحبِّذ أن يكون توجّهنا إلى “تحليل الخطاب الدّيني في مستوى ملفوظات ذات الشكل اللاهوتي من قبيل التخريج القضوي: أن الله موجود، وأن الله ثابت، وأن الله قوي على كُل شيء” (نفسه: ص 159)، بدلاً من ذلك، يعتقد ريكور “أن هرمينوتيقا للوحي مُطالبة بأن تُخاطب على نحو أولي أصل جهات لغة إيمانية؛ تخاطب العبارات التي يتأوَّل بها أعضاء المجموعة أصلانياً تجربتهم لأنفسهم ولغيرهم” (نفسه: ص 159). وبصدد هذه العبارات “لا بد من اقتلاع هذا الحُكم من جذره، ولا بد لنا من الاقتناع بأن أجناس الكتاب المقدَّس لا تمثل واجهة بلاغية يكون من السهل تهشيمها إجلاءً لمضمون فكري لا يتأثر بالناقل الأدبي” (نفسه: ص 159)، فهذه قناعة لا بد من اجتثاثها جذرياً عبر الابتعاد عن الاعتقاد بأن لغة الإيمان تلّخصها مجرد عبارات قضويّة باتت سائدة لدى الوعي
 الإنساني. 
إن تبديد عتمة الوحي تتوجب - بحسب ريكور - “إبادة لكُل شكل كُلياني من السلطة التي قد تزعم حيازة الحقيقة التي يعطيها الوحي” (نفسه: ص 165). وكُل ذلك تمهيد لنسف فكرة “لاهوت عقلي” (نفسه: ص 165) بالعودة إلى “مستوى خطاب الوحي الأساسي” (نفسه: ص 165)، لينتقل إلى نقد خطاب أسئلة فلسفية سينبري الدِّين للإجابة عليها 
(انظر: نفسه: ص 165)، وهو ما لا يريده ريكور، إنما بدلاً من ذلك، يبتعد عن أيّة مسارات للتعقُّل، ويقترح مفهوم التجلية أو الإجلاء نأياً عن عبارة “التحقُّق”، وسيقترح مسرى قوامه لفهم الحقيقة بالانطلاق من منظور “التجلي” ليقول إننا لا بد أن ندع فضاء تجلي أن يكون قبل أن نتفلت نحو وعي الذات المفكرة والمتكلِّمة” (نفسه: ص 167)، وهذا كلام سينحاز إلى قناعتنا بأن تأويليّة ريكور تميل إلى التجربة الباطنية وليس العقلية فقط ليخلو له جو الكلام وهو يدعو إلى تفضيل “الالتفات نحو بعض بُنى تأويل التجربة الإنسانية قصد أن نتبيَّن فيها ملامح يُمكن من خلالها لشيءٍ ما أن يًُفهم تحت فكرة الوحي في معنىً محايد عن الدِّين” (نفسه: ص 167). على أن هذا الفهم يُمكن أن يكون تكريساً “للدعوة غير الإكراهية للوحي والكتابي” (نفسه: ص 167)، إنما 
التناغم معها.  
في سياق التجلي، يقترح ريكور ثلاثة مفاهيم هي: استقلال الكتابة، والإخراج بواسطة الأثر، والإحالة إلى عالَم أو بتوضيح آخر: الكتابة بوصفها علاقة مخصوصة بين الأشياء وليست كتلة مادية للكلمة، ومفهوم الأثر، ومفهوم عالَم النص أو أمر النص، العلَم المستهدف خارج النص، على أن القصد والبنية يشيران إلى المعنى، أما عالَم النص فيشُير إلى مَرجع النص، وهو ليس ما قيل إنما ما عنه قيل، وأمر النص هو ذا موضوع الهرمينوتيقا وأمر النص هو العالَم الذي ينشره أمامه.
 (انظر: ص 169). 
تبدو هذه التقسيمات هي نفسها مركز “الوظيفة الكاشفة للخطاب الشِّعري” (نفسه: ص 169). وما يريد الوصول إليه ريكور عبر هذه التقسيمات إنما هو عدم اعتبار الحقيقة تحققاً؛ بل “الجلاء، أي أنْ تدع ما يظهر يكون، وما يظهر هو كُل مرّة مقترح من العالَم؛ من عالَم يكون بحيث يُمكنني الإقامة به حتى أشرع فيه واحداً من أخص إمكاناتي، وفي معنى الإجلاء هذا تكون اللغة، في وظيفتها الشِّعرية، محل كشف”
 (نفسه: ص 172).
وفي خضم ذلك، سينتهي ريكور إلى القول بأن “هرمينوتيقا الكتاب المقدَّس هي على التوالي هرمينوتيقا جهويّة في هرمينوتيقا عامّة، وهرمينوتيقا فريدة تضمُّ إليها الهرمينوتيقا الفلسفية كأرغونانها المخصوص، هي حالة خاصّة لكون الكتاب المقدّس هو واحداً من كُبريات قصائد الكيان existence، وهي حالة خاصّة فريدة لأن كُل الخطابات الجزئية تحال على الاسم الذي هو نقطة التأويل والمربّع الخالي لكُل خطاباتنا عن الله، وتحال على اللامُسمى” (نفسه: ص 174).