لماذا لا يستغل الشباب فكرة {الاقتصاد الإبداعي}؟

منصة 2024/08/01
...

 د.حيدر علي الأسدي

ظهر مصطلح "الاقتصاد الإبداعي" لأول مرة في مقال لبيتر كوي عام 2000 عن التحول الوشيك للاقتصاد العالمي من صناعي إلى اقتصاد تكمن إمكانياته في "القوة المتناميّة للأفكار". وأشار له كذلك جون هوكينز في كتابه "الاقتصاد الإبداعي: كيف تكسب المال من الأفكار" واصفًا الاقتصاد الإبداعي بأنّه "طريقة جديدة للتفكير لإعادة إحياء مجالات التصنيع والخدمات والتجارة والترفيه بالتركيز على المواهب أو المهارات الفردية والفن والثقافة والتصميم والابتكار".

وحدد هوكينز خمسة عشر قطاعاً تنتمي إلى الاقتصاد الإبداعي وتتمثل في: الإعلان، والهندسة المعمارية، والفنون البصرية، والحرف اليدوية، والتصميم، والأزياء، والأفلام، والموسيقى، والفنون الأدائية، والنشر، والبحث والتطوير، والبرمجيات، ولعب الأطفال والألعاب، والراديو والتلفاز، وألعاب الفيديو.
وقدم "الأونكتاد" تعريفًا مهمًا للاقتصاد الإبداعي، اذ وصفه بأنه "نمط من النشاط الاقتصادي يعتمد على استخدام الأصول الإبداعية لتوليد النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية." ويسمى الاقتصاد الإبداعي احياناً بـ "الاقتصاد البرتقالي" وهو مصطلح صاغه فيليب بويتراجو ريستريبو وإيفان دوكي ماركيز مؤلفا كتاب "الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا حصر لها".
وقد تم اطلاق لفظ برتقالي على "الاقتصاد الإبداعي" لأن اللون البرتقالي يُعد رمزاً للثقافة والإبداع والهوية عند المصريين القدماء.
إن "الاقتصاد الإبداعي" يقوم على العقول الموهوبة المفكرة، وعلى المنتجات التي تأخذ طابع تشكلها من "الابداع والعقل المنتج له" وهي تعتمد على مرجعيات تتصل بالإرث الحضاري والثقافي والاجتماعي للبلدان وكيفية تهيئة تلك المنتجات الإبداعية للسوق.
أصبح "الاقتصاد الإبداعي" اليوم أحد أهم الاقتصادات التي ممكن أن ترتكز على رأس المال الثقافي الفكري، واقتصاديات المعرفة والرقمنة، بخاصة مع التطورات التكنولوجية الهائلة في مجالات الذكاء الاصطناعي وما يقدمه للإنسان اليوم من منتجات مختلفة.
إن هذا الاقتصاد بدأ بالتنامي بسرعة بوصفه يقوم على العقل والفكر، ولا يحتاج إلى رأس مال كبير، في تقرير أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" عام 2018 أشار إلى أنه قد بلغ متوسط معدل النمو السنوي للسلع الإبداعية بين عامي 2013 و2015 نحو 7.34 في المئة، بينما زادت الصادرات العالمية للسلع الإبداعية من 208 مليارات دولار في عام 2002 إلى 509 دولارات في عام 2015، أي أكثر من الضعف خلال 13 عاماً.
وأثناء انعقاد الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة تم إعلان 2021 عامًا لـ "الاقتصاد الإبداعي" من أجل الوصول إلى التنمية المستدامة في العالم. اليوم بات "الاقتصاد الإبداعي" يشارك بنحو 6.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد الإبداعي بنسبة 40 بالمئة مع حلول عام 2030 وتوفر الصناعات الإبداعية حوالي 6.2 بالمئة من إجمالي فرص العمل، وتسهم بعائدات سنويّة تصل إلى حوالي 2 تريليون دولار.
كل البلدان العالمية باتت تتجه نحو "الاقتصاد الإبداعي" وبخاصة في شرق آسيا، مثلا الصين التي تعد السوق الأكبر للاقتصاد الإبداعي، وتنتج من السلع والخدمات الإبداعية بصورة كبيرة. إذ زادت صادراتها من السلع الإبداعية بأكثر من 2.5 ضعف خلال العقدين الماضيين، ويبلغ حجم الصادرات من السلع والخدمات الإبداعية في الصين ما يمثل 32.2 بالمئة من الصادرات العالمية، وقرابة 6.5 بالمئة من إجمالي صادرات البلاد.
في حين تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المستوردة للسلع الإبداعية في عام 2020، بمقدار 108 مليارات دولار، تليها هونج كونج بنحو 30 مليار دولار، وألمانيا بنحو 30 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة بنحو 24 مليار دولار، وفرنسا بنحو 22 مليار دولار، والصين 20 مليار دولار.  
وأشار تقرير صادر عام 2017 بشأن تطور "الاقتصاد الإبداعي" في ألمانيا إلى أن هذا القطاع يشكل واحدًا من القطاعات الواعدة ذات الإمكانات الواسعة، إذ تزداد مساهمته في مجمل الأداء الاقتصادي الألماني.
ومن أهم مشاريع "الاقتصاد الإبداعي" في العالم هي شركات "الفيس بوك، نتفيلكس، كوكل" وغيرها، والتي بدأت كأفكار "وشركات ناشئة"، ومن ثم أصبحت شركات اقتصادية عالمية لها حضورها الفاعل في الاقتصاد العالمي بهذا المجال.  وعلى مستوى البلدان العربية فممكن الإفادة من هذه التجربة المهمة بالنسبة للخريجين وأصحاب المشاريع الابتكارية والريادية، حيث أصبحت الحكومات العربية تركز على ما يسمى بريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة أو متناهية الصغر، لاسيما أن "الاقتصاد الإبداعي" يتلاحم مع مفاهيم الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، مما يعود بالفائدة الكبيرة على الصناعات الإبداعية ويزيد من الاسهام في الناتج المحلي الإجمالي، فهو اقتصاد يتبع نظام يتسم بالحرية الأكبر بموضوع التسويق والعلاقة مع "المستهلك" بفضل زيادة تطورات تكنولوجية تسمح بتعدد منافذ التسويق وزيادتها.
وقد اعدت اليونسكو بحثاً أشار إلى أن "الصناعات الإبداعية" حققت عالميًا عائدات بقيمة 2.25 تريليون دولار أمريكي، ووظفت 29.5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بشكل رسمي، وهو الأمر الذي يحفز الخريجين للعمل والإفادة من هذه التجارب بمجال صناعة مشروعهم الخاص، وبالارتكاز على ما توفره لهم الدورات التدريبية الخاصة بريادة المشاريع من معلومات من الممكن أن تنمي أفكارهم الاقتصادية مع ما يملكون من عقول إبداعية ابتكارية للعمل على هذه المنتجات، سواء عبر "الحرف اليدوية، التصاميم، البرامج الالكترونية، الأعمال الفنية والتصوير، النشر والطباعة، والوسائط المسجلة والفيديوية، والإعلانات والتسويق الالكتروني" خاصة ونحن في المنطقة العربية من عشاق الإبداع وجمهورنا يميل إلى الاعمال الإبداعية مثل "المصغرات التراثية والتاريخية والحضارية، أو المواقع الاثرية والمتاحف، والمكتبات العامة، والمعارض، والاوبرا، والسيرك، والسينما، وتصميم لعب الأطفال والمجوهرات، والموسيقى" وغيرها من منتجات يمكن أن تتحول إلى عملة اقتصادية نادرة بيد العقول المبتكرة والموهوبة.
وكما تفعل البلدان العربية ذلك من خلال دعم الحرف والأعمال اليدوية والمواسم الثقافية، والمتاحف الوطنية، فمثلاً ركزت قطر على المتاحف وغيرها من فعاليات تجذب لها المقاصد السياحية والعملة الصعبة. وفي الامارات هناك استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي وحسب تعريفهم لها فأنها "استراتيجية طموحة تهدف إلى تحويل إمارة دبي إلى وجهة مفضلة للمبدعين من كل أنحاء العالم، وعاصمة للاقتصاد الإبداعي بحلول عام 2026 عبر تهيئة البيئة التشريعية والاستثمارية اللازمة لازدهار القطاع الإبداعي في دبي، وزيادة جاذبيتها للمبدعين والمستثمرين ورواد الأعمال".
وفي مصر مثلت الصناعات الإبداعية قيمة مضافة للاقتصاد المصري، نظرًا لما تحظى به من مقومات مهمة في العديد من الصناعات التراثية، لا سيما صناعة "التلِّي" في الصعيد، وكذلك السجاد اليدوي والمصغرات السياحية وقطاع السينما وغيره.
وعن العراق فلدينا المقومات التي من الممكن أن تحول المفهوم الإبداعي إلى قوة اقتصادية، ففي هذا البلد حضارة عريقة، بل حضارات فيها من التراث والعمق التاريخي كـ "المتاحف، الاهوار، الأماكن الطبيعية، الشخصيات والرموز الإبداعية المهمة، المهن والحرف التراثية" والأهم العقول البشريّة الإبداعية المتميزة التي من الممكن أن تسهم بتطور الاقتصاد الإبداعي، خاصة الشباب والخريجين الذين من الممكن أن يتجهوا نحو هذا المسار مع انحسار فرص العمل في القطاع الحكومي، بحثا عن حلول ابتكارية قائمة على مهارة العقول والابتكار وخيالهم المفعم باندفاع روح الشباب الذي من الممكن أن يتحول إلى مكاسب على أرض الواقع.
هذه دعوة حقيقية صادقة لشبابنا للإفادة من التجارب العالميّة والعربيّة بهذا الخصوص، خاصة مع التطورات والقفزات النوعية في مجالات وأدوات وحلول التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على وجه التحديد.