الفلسفة وآليَّات اشتغال قصيدة النثر

ثقافة 2024/08/04
...

 علي لفتة سعيد


يؤكد البعض من النقاد والباحثين أنَّ الشعر واحد من اشتغالات الفلسفة، والبعض الآخر يعده هو الفلسفة والعكس في الاثنين لدى آخرين. فالشعر سؤالٌ والفلسفة سؤال، والسؤال محاكاة البحث عن جواب. وأكدنا في أكثر من مكانٍ أن المشكلة ليست في الإجابة، بل في السؤال الذي يأتي بالإجابة. وتلك تقترب من مقولة الفلسفة من جهةٍ، وروح الشعر من جهةٍ أخرى. فالشعر علاقة بين الذات والموضوع، وبين الروح المخلّقة في فضاءات غير مرئيّةٍ، وبين جسد النصّ الذي يعطي تفاصيل التجسيم الشعري لكلّ أوّليّاته. وبالرغم من أن الفلاسفة لا يقتربون من الشعراء، وبينهم عداء وعداوة، لأسبابٍ قد لا يكون لها ارتباط بالإبداع، بل ربما في قوّة الشعر واقترابه من الناس، وله حظوة الحضور والاستماع، على العكس من الفلسفة التي تكون صعبةً للمتلقّي، وهي اختصاصٌ دقيقٌ لا يمكن حتى للشاعر أن يكون فيلسوفًا. لكن العلاقة واضحةٌ للمتفحّص الذي يريد المقاربة بين الإنتاجين على أساس التفكير والتمحيص والرؤية غير المرئية في عوامل الاشتغال والإنتاج الكلّي. ولأنَّ الفلسفة هي رغبة الإنسان/ المفكّر في الدخول إلى جوّانيات معترك التفكّر بما حوله، والرغبة بالمعرفة بكلّ ما يحيط الإنسان؛ لذا هي تدخل في كلّ الاجناس الأخرى حتى الطبيّة والدينيّة والاقتصاديّة، كونها تحفّز العقل، مثلما هي حكمة التعرّف والتمحيص والتفكير والشعور بالوصول من لحظة الشعور إلى لحظة الإحساس، في حين يكون الشعر هو محاولةٌ للإمساك بما تجود به الكلمة من غايات الوصول، من لحظة الإحساس بالدهشة إلى لحظة الشعور بها.

ولأنَّ الشعر كلمات المخيّلة، والفلسفة كلمات تعتمد على الرؤية لكلّ الأشياء، فإن الربط والرابط بينهما هو الاحتكام إلى فعّالية اللّغة وما يمكن أن تعطيه من قصيات وتأويل. لكن الاختلاف بينهما كما يقول الباحث والشاعر السوري بيار روباري في مقاله الذي حمل عنوان (الشعر والفلسفة) ونشر في موقع صوت كوردستان (يكمن في آليَّة تقديم كل منهما نفسه من خلال اللغة. التعبير الفلسفي قريب من الواقع، كونه يخاطب العقل الإنساني وتحثه على البحث عن الحقيقة. بينما التعبير الشعري مقترن بالأفق الكوني في جوانبه المعرفيّة، وبالخيال في جوانبه الإبداعيّة الهادفة إلى المتعة والجمال، كونه يخاطب الروح في الإنسان والوجدان في الإنسان. وفي رأي داخل كل شاعر فيلسوف أو متفلسفٍ بالضرورة). لكن ما يجمعهما من ضرورة التأمّل أكثر من ضرورة التفرّق، فلكلّ منهما ضرورة التواجد. فالشعر فلسفة يبطنها السؤال الذي يحتاج إلى طريقة اشتغالٍ خاصّة، تميّز الشاعر/ المنتج عن غيره. والفلسفة تحتاج إلى تأمّلٍ واشتغالٍ آخر، تعطي مفعول الواقع المضمر. والشاعر كما يقال عنه دائما إنسان حالم، إحساسه مرهف لا يلمس الأشياء، ولا يبحث عن حالةٍ من التلامس خارج ميتافيزيقية الوجود، والفيلسوف أخذ من هذه الحالة الكثير لكنه أبقى الرهفة خارج السياق، ليقترب من الحالة الميتافيزيقية إلى الحالة الفيزيقية، لأنه يعد التأمّل بالواقع هو الوصول إلى الحقيقة، والشاعر يعد التأمّل بالكون هو الطريق الموصل إلى فاعلية الشعر، وتعمد على المقدرة بآليات الاشتغال وبآليات التأمّل. فما بين الملامسة والتأمّل تقبع الفاصلة التي تثور باللغة التي تحتاج المتلقّي في الحالتين إلى سبيلٍ للتأمّل بمخرجات هذه اللغة. ويشير الباحث بيار روباري في ذات المقال أن (الشعر والفلسفة في النهاية يكملان بعضهما البعض، ولكل منهما دوره في الحياة ويخدم البشرية بطريقته ولا تعارض بينهما، حيث مجال عمل كل منهما منفصل عن الآخر بشكل أو آخر. وأنا كشخص مُحب للفلسفة وقارئ لها، ومن الجهة الثانية كشاعر لم أحس يوما بتعارض هذين الحقلين المهمين في حياتنا الفكرية والفنية والأدبية.)

لذا فإن الشعر ينطلق من مفهوم الفلسفة التي تعطيه الإجابات التي يمنحها السؤال روح الفلسفة والإجابة روح الشعر. وهذه العملية تتأتّى من طريقة الاشتغال، التي يمارسها الشاعر. وهنا يمكن أن نطرح سؤالًا: هل كلّ قصائد الشعر تقترب من الفلسفة، أو تستغلها، أو تخرج من تحت عباءتها، والعكس صحيح؟، أو هل كلّ شاعرٍ فيلسوف؟، وأيّ القصائد الشعريَّة أقرب إلى الفلسفة؟.

إنّ الإجابة هنا لا تخرج عن المفهوم العام، بالرغم من أن البعض سيجر الإجابة إلى ما هو مطروح، من أن الاثنين لا يتّفقان في مفهوم اللغة المستخدمة وطريقة إنتاجها، باعتبار الشعر من وجهة نظر الفلاسفة، يبعد المتلقّي عن الحياة وحقيقتها والتفكّر بها، وأن الشاعر أنانيّ متعالٍ ينطلق من الذات إلى الذات والبحث عن الملذّات. في حين الشاعر يقول عن الفيلسوف ما يمكن وصفه بأنه إنسان متقولِب أو حتى متحجّر. لكن هنا نبحث عن الشاعر الفيلسوف الذي لا يريد أن يكون أنانيًا ولا متكبّرًا، بل هو يرى الحياة من أكثر من نافذة. وأعتقد أن شاعر قصيدة النثر هو الأقرب. لأن الجملة الشعرية في قصيدة النثر جملةٌ ليست خارجية المعنى، بل هي محتوى من التفاصيل التي تحتاج إلى تأمّل. على العكس من قصيدة العمود أو التفعيلة التي يكون المعنى ظاهريًا في شكل الكلمة، وارتباطها مع الكلمة التي سبقتها، لذا يكون التأويل فيه يحتاج القليل من التأمّل مع وجود المتعة والدهشة أيضا. لكنها تختلف عن قصيدة النثر التي تحتاج إلى معرفة أسرار الروح المنثورة بين الجمل الشعرية، وكونها قصيدة جسدٍ لا قصيدة مقاطع، حتى أن شطرًا من قصيدة تفعيلة أو بيتا من قصيدة العمود يمكن أن تخلد النصّ كلّه، او حتى الشاعر ويكون حكمةً ومثلًا وتحليلًا. في حين يصعب الأمر في قصيدة النثر. لهذا فهي تقترب من الفلسفة روحًا ونظمًا وسؤالًا وبحثًا ودهشةً ومتعةً حتى في رؤية إلى المحيط والسعي إلى تفكيك العلاقات التي تسهم بتكوين هذا الكون. وهو الأمر الذي يشير له الكاتب والأديب واللبناني أمين ريحاني في مقاله (الشاعر والفيلسوف) المنشور في صحيفة الوطن السعودية: إنه (إذا أمعنا النظر في المسألة، فيتبين أن بين الشعر الكوني الروحي؛ وبين الفلسفة التي تقرن المادة بالروح صلة متينة؛ ونسبًا قديمًا يمت إلى أفلاطون وهوميروس ومن تقدمهما. والحق يقال: إن في فلسفة أفلاطون شعرًا صافيًا، وفي شعر هوميروس فلسفة سامية).


الوضوح والاقتراب 

إنَّ العلاقة تكون أكثر وضوحًا مع قصيدة النثر من أنواع القصائد الأخرى الأكثر شهرة. وهو ما يعني أنّ على شاعر قصيدة النثر أن يكون قريبًا من الفلسفة، وليس فيلسوفا، لأنه سيحوّل نصّه إلى تحليلٍ فلسفيّ، أكثر منه روح كلماتٍ تحمل الدهشة. وكما أعتقد فإن الحبل الممتد إذا قطع بين النص النثري وما تحمله الفلسفة من معنى السؤال والتدقيق في الجوّانيّات، فإن هذا الحبل سيلتفّ حول رقبة النصّ ويرميه خارج منطقة النثر الشعري. ولهذا فإن شاعر قصيدة النثر شاعر كوني، يهتم بموسيقى الكلمة وفحواها الداخلي، أكثر من ظاهرها الشكلي، خاصة إذا ما عرفنا أن الفلسفة ذاتها بدأت شعرًا، كما يذكر بعض المهتمين والباحثين من أمثال الفلاسفة الأوائل طاليس وهيراقليطس. وحتى أرسطو الذي اشتهر أكثر من غيره في إيجاد العلاقة بين الشعر وأهميته، والشعر والفلسفة واعتبار الاثنين محاكاة للطبيعة، والفرق بينهما أن كلّ واحدٍ منهم يدّعي نبوّة الاحتكار. لكن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر يصف الشعر باعتباره تأسيسًا للوجود عن طريق الكلام. وهو ما يعني أن الشعر يؤثّر في العقل والعاطفة كما الفلسفة، ولكن الارتباط بالرغم من أن هذه المقولات القديمة ترتبط بالشعر القديم، لكنها أقرب إلى النثر منه بالنسبة لنا كقرّاء عرب.

لذا فإن السؤال الذي يرمى بين والحين والآخر من أغلب الباحثين في الشعر والفلسفة عن العلاقة بينهما وغيابها، والتي نصل بها إلى  أن قصيدة النثر هي محمول الفلسفة، وكذلك الفلسفة هي محمول الشعر النثري. بالرغم من أن هناك شعراء عربًا قدماء يعدّهم البعض شعراء فلاسفة مثل أبي تمام وزهير بن أبي سلمى والمتنبي وحكيم المعرة والصوفية، فضلًا عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وشعراء في العصر الحديث دمغوا بخاتم الفلسفة مثل جميل صدقي الزهاوي، وبعض شعراء المهجر مثل جبران خليل جبران، وكذلك الشعراء الصعاليك، لكن هذه القصائد تغلب عليها الروح المتمرّدة التي تعتمد على القول الظاهر، أو الرؤية الخارجية للكلمة التي تجتمع مع صورة الكلمة الأخرى. في حين في قصيدة النثر يكون النص كلّه خاضعًا لروح التمرّد وسؤال الفلسفة والمعاندة. ويقول استاذ الفلسفة والمترجم والكاتب المصري عبد الغفار مكاوي في كتابه (شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة) ما يمكن اختصاره: (لولا الأدب ما كانت الفلسفة. ويخطئ مَن يظن أن لا صِلةَ بين صوت القلب الدافئ الحنون وبين صوت العقل البارد المتعالي. فالأدب - والشعر بوجهٍ خاص - هو مبدأ الفلسفة وغايتها) ويقول في ذات الكتاب: (في كل أدب عظيم فلسفة، وفي كل فلسفة عظيمة أدب.. وأن نجد الصور النثريَّة والشعريَّة التي تكثف بطريقتها أفكار الفلاسفة).

لذا فإنّ العلاقة التي ركّز عليها النقاد بنفيها أو وجودها، فإنّها تكون أقرب إلى قصيدة النثر، لأنّها التي تبوح في الأشياء ومنها، وتريد تعريتها من خلال السؤال الفلسفي الذي يكون الروح الباطنيّة التي تعطي مدلول الكلمة دلالة الوجود التي تحتاج إلى متلقٍ واعٍ لماهية الجملة ودلالتها.