حسن الكعبي
تعرضت المفاهيم الكبرى إلى التلون أو إلى ما يصفه الدكتور عبد الله الغذامي بـ(المفاهيم الموشومة) في سياق تشريحه لليبرالية الجديدة، التي نتجت عن التواطؤ التاريخي، بين العلمانية النسبية، والمحافظين الجدد، وتبعا لذلك فقد توشّمت الليبرالية وتوشّمت مفاهيمها القيمية – أي- أنها اقترنت بالممارسات، التي انحرفت عن مسار الليبرالية المعهودة والمعروفة كصيغة كبرى لتمثيل قيم العدالة، والحرية، والمساواة، فالحرية تحولت إلى إقصاء في إطار مفهوم (صون العلمانية) في فرنسا، الذي كان يهدف إلى منع الحجاب عن الجالية المسلمة، والذي برّر ضمن الفكر السياسي الفرنسي بإدراجه ضمن مفهوم المساواة، والعدالة، والحرية، والتي ينظر اليها (عبد الله الغذامي)، وهي في هذا الحال بوصفها إلغاء الآخر ومحاولة للاستحواذ عليه واحتواءه وتفريغه من محتواه ونمذجته -أي- بجعله نموذجا مشابها للنموذج الفرنسي في ممارسته وعدائيته للحجاب الذي يؤشر رمزية الاختلاف عن السائد في المتبنيات الفكرية للمجتمع الفرنسي، وهي متبنيات تكشف عن عدائية للدين، ومحاولة تدنيسه كما تجسد في الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص)، والتي نشرت في صحيفة (شارلي ابدو)، وتطورت تلك الإساءات إلى إحراق القران الكريم لأكثر من مرة في الدول، التي تتبنى الليبرالية وتبشر بفتوحاتها الإنسانية.
أن الإساءة للدين لم تتوقف عند الإساءة للدين الإسلامي وحسب، بل تعدتها إلى الإساءة للدين المسيحي ضمن المحاكاة الساخرة في حفل افتتاح الاولمبياد (2024) في فرنسا للوحة – دافنشي- الشهيرة (العشاء الأخير) وتضمنت هذه المحاكة إعادة تمثيل المشهد الشهير للسيد المسيح والحواريين وهم يتشاركون وجبة أخيرة قبل الصلب وفق العقيدة المسيحية، ولكن في وجود عارضة أزياء متحولة جنسيا تحتل موقع السيد المسيح (ع) في اللوحة، ويحيط بها مجموعة من المتحولين، جنسيا وهم عراة في محاولة واضحة للاساءة إلى النبي عيسى (ع) والى المسيحية والسخرية من فن دافنشي ايضا، وعلى الرغم من تقديم فرنسا اعتذارا رسميا عن هذه الاساءة، إلا أن ذلك لا يعفيها من مسؤولية هذه الافعال المتهورة، التي تنفذ باسم الحريات المتخارجة عن الليبرالية بطبعتها الموشومة المغايرة للحمولات النبيلة لمفهوم الليبرالية، الذي دشنته الانوارية كصيغة لخلاص الإنسانية من القمع والإقصاء والتعايش الإنساني بعيدا عن أي تحيزات دينية أو عرقية، ودون أي إساءات أو تدنيس لمقدساتها وانتهاك خصوصياتها، وذلك ما نشهده في بعض تمثيلاتها التي ظلت محافظة على صيغتها الفذة، ولم تتعرض للتلون وذلك يرجع بحسب - الغذامي -الى وجود نماذج صنعت رمزيتها العالمية، التي أصبحت قابلة للتسويق والتمثيل، ومثال ذلك - نموذج غاندي - الذي طوع تمثيلات الديمقراطية لمفاهيمه المعروفة حول السلم والتسامح، بحيث أصبحت ديمقراطية غاندي قابلة للتمثل من قبل الاصلاحي الكبير -مارتن لوثر- ومن ثم - مانديلا -.
إن هذه النماذج وعبر تمثيلاتها لمفاهيم السلام والتسامح استطاعت أن تخلق صيغة لديمقراطية بيضاء تحتفي بالمختلف، دون أن تفرض عليه نماذجها وتنميطاتها، كما حدث في فرنسا وانكلترا مثلا في فرض نماذجها ورؤاها على الاخر تحت مسمى الديمقراطية والليبرالية.
كما أن هذه النماذج فضحت الاحتيال الغربي على المفاهيم التقدمية والحداثية، من خلال ربطها بحضارتها في سياق هواجس التمركز الغربي، في حين أن هذه النماذج الحضارية التي ظهرت في الشرق الادنى أو الشرق الاقصى كما في (الهند واليابان والصين وفي دول أخرى، بعيدة كل البعد عن الارتباط بالحضارة الغربية)، كشفت عن طبيعة الاحتيال الغربي، وعن امكانية انبثاق مفاهيم المدنية والتحضر والحداثة وتمتيلاتها التقدمية ضمن رقعتها الجغرافية - بمعنى - أن المفاهيم التقدمية ترتبط بالجغرافية وتمثل بيئتها، وليست حكرا على النموذج الحضاري الغربي كما في مزاعمه المركزية، كما أنها لا يمكن أن تفرض فرضا يلغي الخصوصيات في إطار النزعات الغربية الامبريالية، وهيمنتها العولمية التي ألغت الخصوصيات ولم تعد هنالك خصوصية سوى للصفات، اذا كانت الصفات تحسب ضمن الخصوصيات، وهو بتعبير- الغذامي – «امر يشك المرء به «و المقصود بها صفات (الكرم والشجاعة وما إلى ذلك من صفات حسنة)، ذلك أنها هي الأخرى من الصفات المشتركة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، إذ لا يعدم وجود مثل هذه الصفات عند أي مجتمع أو أي شعب من الشعوب، لكن قد تطغى بعض الدلالات المعنوية، لصفة من الصفات عند مجتمع اكثر من مجتمع آخر أو يتميز مجتمع ما ببعض الصفات دون الآخر.
إن تلوِّن القيم دفع بالمفاهيم الكبرى إلى منزلق خطير، ومنها الصيغة الديمقراطية العالمية، التي تعرضت للخلل بسبب ارتباطها بالليبرالية الجديدة وما ترشح عنها من مفاهيم الحرية والمساواة، التي بدأت تشهد تمثيلات متغايرة من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وأصبحت في بعض تمثيلاتها صيغة للاستحواذ والهيمنة والاستعمار الفكري والجسدي، كما في محاولة إقصاء معتقدات الآخرين، من خلال ممارسة تلك النوعية في تدنيس المقدس، كما حدث في فرنسا مؤخرا ضمن الإساءة إلى لوحة العشاء الأخير كما أسلفنا، أو كما يحدث في فلسطين ومجازر غزة، تحت مبررات فرض التحضر والديمقراطية، التي بدأت تتكشف عن زيف مفاهيمها وتلونها، وكونها مفاهيم خادعة، تضمر أنساق الهيمنة والاستحواذ، وتعميم نماذج الإلغاء بدعوى التقدم الزائف في تضمينات الليبرالية الموشومة.