إليف شافاك: هناك أنهار في السماء

منصة 2024/08/05
...

 إعداد: كلير أرميتستيد
 ترجمة: رؤى زهير شكر

التركية أليف شافاك تتحدث عن تجربتها "السريالية" في الملاحقة القضائيّة بسبب أعمالها الروائيّة، ونفيها الطوعي من وطنها - ولماذا يعتبر الخيال ترياقاً لعصرنا المنقسم والمنقسم إلى حد كبير.
في أحدث روايات شافاك، حيث تتساقط قطرة مطر واحدة وترتفع عبر آلاف السنين. في نينوى، وفي القرن السابع قبل الميلاد، تهبط على رأس آشور بانيبال، الملك الذي أنقذ هوسه ببناء مكتبة عظيمة ملحمة جلجامش الرافدينية من الدمار بتهمة التجديف، وفي القسطنطينية في القرن التاسع عشر، تهبط القطرة مرة اخرى على رأس آرثر، الذي وصل في مهمة رسمية للعثور على قسم مفقود من الملحمة، يصور طوفانا ما قبل الكتاب المقدس.
تظهر مرة أخرى كآخر قطرة ماء في زجاجة أرعبت الايزيديين في القرن الحادي والعشرين يحملونها معهم في هروبهم من المذبحة إلى جبال العراق القاحلة.
شافاك توضح أن الرواية التاسعة التي كتبتها باللغة الإنجليزية والثالثة عشرة لها بشكل عام، "هناك أنهار في السماء" هي قصة "لثلاث شخصيات ونهرين وقصيدة واحدة". النهران هما نهر التايمز ودجلة، والقصيدة هي جلجامش.
إلا أن شافاك أرادت أن تجعل من قطرة الماء موضوعا موحداً، كما تبين، حين نتحدث عن أزمة المناخ فإننا نتحدث عن أزمة المياه العذبة، والتي تؤثر على الجميع، ولكن في بعض أجزاء العالم تكون الأزمة سيئة بشكل خاص. حيث تقع سبعة من أكثر الدول التي تعاني من نقص المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولها عواقب وخيمة على النساء والفقراء.
من مكتب شافاك في لندن، حيث كتب من كل نوع في رفوف عدة، مكتب كبير مغطى بالجلد، وتحته يرتاح كلب أبيض صغير يدعى روميو.
تقول شافاك: "أقوم بكمية هائلة من البحوث، كما يعلم الجميع بقيت في المجال الأكاديمي لفترة طويلة، حيث العلوم السياسية ودراسات المرأة والثقافة. هذه المعرفة متعددة التخصصات هي شيء أقدره حقاً، ولا أحب أن يضع الناس المعرفة في صناديق منفصلة. أحب الروايات المليئة بالأفكار والتعددية والفروق الدقيقة والطبقات - تلك التي تلمس القلب وتخاطبه. لذا فهناك الكثير من البحث، ولكن هناك أيضا الكثير من الخيال والحدس".
اِلتقيتها في نهاية الفصل الدراسي، حيث أطفال شافاك من المراهقين يتسكعون حولنا، بعد أن انتهوا للتو من امتحانات مهمة.
لكن هالة من الهدوء تنبعث من المنزل، وكذلك من شافاك نفسها. الأسطح مرتبة. تنزل شافاك مع أكواب الشاي وشرائح كبيرة من الكعكة بيتية الصنع، قبل أن تجلس للحديث عن انزعاجها من حالة العالم وإيمانها بأن الخيال هو أحد آخر مساحات العالم الديمقراطية.
شافاك لا تنفر من أشكال الخطاب الأخرى، كون رواياتها تتخللها أعمال غير روائية، وأحدثها تأمل أنيق حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف أن تكون عاقلا في عصر الانقسام.
 ألقت شافاك ثلاث محاضرات في مؤتمر TED، وكتبت أعمدة رأي متعددة في الصحف، وتقدم تحديثات منتظمة لمتابعيها البالغ عددهم 1.6 مليون على X (تويتر سابقا)، كما لديها Substack خاص بها لجمع الحكايات والرؤى من مذكراتها الشخصيَّة. وتدور هذه الأفكار بين الشخصيات التاريخية المهملة التي اكتشفتها إلى التأملات حول خصائص اللغة، كما في كتب النصائح التي الفتها شافاك ومنها كتاب ("لا تسكب الشاي على لوحة المفاتيح").
حول الروايات التي تشكل محور اهتمام شافاك تتحدث قائلة: "في كثير من الأحيان، اعتقد أن الخيال هو الترياق لعصرنا المنقسم والمنقسم إلى حد كبير. إنه المكان الذي يمكننا فيه أن نواصل إجراء محادثات دقيقة، وأن نطرح أفكاراً متعددة في الوقت ذاته، وأن نفتح الباب أمام قضايا صعبة لنتأملها بهدوء. كما يمكننا أن نفكر ببطء، لأننا نندفع دائماً إلى إصدار الأحكام، إنها مسائل تدور حول التعاطف، ومحاولة وضع نفسك في مكان شخص آخر، وأن تصبح ذلك الشخص لبضع ساعات على مدار بضعة أيام. أعتقد أن هذا تمرين جيد للغاية ومتواضع للروح".
وتحتل روايات شافاك مساحة ساحرة، حيث تلتقي فيها الرومانسيّة بالدين وهذا ما حدث في رواية " بنات حوّاء الثّلاث"، بينما ترصد شجرة تين الصدمات السياسيّة في قبرص في رواية "جزيرة الأشجار المفقودة"، بينما تروي شافاك رواية كاملة عن اغتيال عاملة جنس في وسط إسطنبول مرمية في سلة المهملات وذلك في رواية "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" التي رُشحت للقائمة المختصرة لجائزة البوكر.
تقول شافاك "أنا مهتمة بمزج الشرق والغرب، والقصص الشعبيّة مع التراث الأوروبي. أريد لرواياتي أن تكون بمثابة جسور، إلا أن قلبي يتجه دائمًا نحو المحيطات - إلى الأشخاص الذين لا نسمع عن قصصهم، والحقائق التي تم محوها"، توضح شافاك "هذه هي رحلتي الخاصة، في بعض النواحي، بسبب الطريقة التي تطورت بها حياتي. لا ينتمي أي منا إلى صندوق واحد ولكن لدي تعدد كافٍ".
قضت شافاك سنواتها الأولى مع جدتها، بعد انفصال والديها واختفاء والدها الفيلسوف من حياتها لمدة 20 عامًا. على نحو غير معتاد بالنسبة لامرأة تركية من جيلها في حي محافظ في أنقرة، عادت والدتها إلى الجامعة لاكمال شهادتها التي تركتها قبل الزواج.
تقول شافاك إن جدتها كانت "معالجة إلى حد ما"، حيث كانت تذيب مادة الرصاص لطرد العين الشريرة، وكانت أيضا راوية قصّص، "لذلك أنا على دراية عميقة بالثقافة الشفوية في الأناضول". في سن الثامنة، بدأت شافاك في كتابة مذكرات.  "كون الحياة الواقعية كانت مملة للغاية لدرجة أنني لم أجد ما أقوله تقريبا، لذا بدأت في الكتابة عن أشخاص غير موجودين وأشياء لم تحدث. كانت رحلة سريعة جدا بدءً من المذكرات إلى القصص القصيرة، ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، واصلت الكتابة".
عندما كانت في العاشرة من عمرها، أصبحت الحياة فجأة أكثر تحديا. تخرجت والدتها متعددة اللغات، وحصلت على وظيفة في وزارة الخارجية - وكان أول منصب لها في إسبانيا.
تتذكر شفق: "أن الالتحاق بالمدرسة الدولية الفخمة في وسط مدريد كان صدمة ثقافية كبيرة بالنسبة لي، حيث كنت الطالبة التركية الوحيدة"، وأضافت "كان عليّ أن أتعلم الإسبانية بسرعة كبيرة، كما كان عليّ أن أتعلم الإنجليزية بسرعة أكبر، وقد اعتززت حقا بهذه التجربة.
أن أتمكن من قراءة دون كيخوت بالإسبانية، واكتشف فجأة أن هناك أدبا واسع النطاق باللغة الإنجليزية يمكنني الوصول إليه  - كان هذا هو الجزء الرائع. اضافة إلى أن  الجزء الصعب هو مواكبة الأطفال الآخرين.
كنت انطوائية للغاية وتعرضت للتنمر في المدرسة كثيرا".
"منحتني الكتابة بلغة أخرى المسافة الأوسع للنظر إلى المكان الذي أتيت منه" على الرغم من أن الإسبانية كانت لغتها الثانية، إلا أن الإنجليزية أصبحت مكانها الآمن، حيث كتبت شافاك العديد من القصائد واحتفظت بمذكراتها. بعد سنوات عديدة، وبعد نشر رواياتها المبكرة باللغة التركية، اتخذت قرارا بالتحول بالكامل إلى اللغة الإنجليزية. "جاءت لحظة في حياتي شعرت فيها بالاختناق، لكن هذا كان أمرا مخيفًا للغاية، لأنك لست شيئا عاديا كان عليك أن تبدأ من الصفر مرة
أخرى.
في الوقت نفسه، وبشكل متناقض، كان الأمر مُحررا، كونك روائيا في تركيا أمر صعب حقا، وأن تكوني امرأة أمر أشد صعوبةً. كون كل ما تقوله، كل ما تكتبه، يمكن مهاجمته واستهدافه؛ يمكن محاكمتك، ونفيك، وسجنك - الكلمات ثقيلة، أعطتني الكتابة بلغة أخرى المسافة المعرفية التي كنت بحاجة إليها حتى أتمكن من إلقاء نظرة فاحصة على المكان الذي أتيت منه".
"لقيطة إسطنبول" هي الرواية الثانية التي نشرتها اليف شافاك باللغة الإنجليزية،  تناولت الرواية الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، والتي لا تزال الدولة التركية لا تعترف
بها.
تم إدراج الرواية في القائمة الطويلة لجائزة المرأة في المملكة المتحدة إلا انها وجدت نوعا مغايرا من الشهرة في تركيا نفسها، حيث تمت مقاضاتها بتهمة "إهانة الهوية التركية". ورغم تبرئتها لاحقا بناءً على طلب المدعي العام، فقد تم التحقيق معها أيضا بتهمة الفجور عن روايتها "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب"، وعن رواية سابقة بعنوان "النظرة". فيما لم يتم حل أي من هاتين القضيتين، ونتيجة لذلك فقد ذهبت الآن إلى المنفى الطوعي عن وطنها.
تقول اليف شافاك: "محاكمتي بعد رواية لقيطة إسطنبول كانت نقطة التحول الأكبر بالنسبة لي. حيث كنت حاملاً في ذلك الوقت.
وبالصدفة، تمت تبرئتي في اليوم التالي لولادتي. كان العام بأكمله مقلقًا بالنسبة لي. كانت هناك مجموعات في الشوارع تبصق على صوري وتحرق أعلام الاتحاد الأوروبي. اتُهمت بإهانة الهوية التركية، على الرغم من أن لا أحد يعرف ماذا يعني ذلك.
وكان الأمر سرياليا تماما، لأن كلمات الشّخصيات الخيالية تم إخراجها من الرواية واستخدامها كدليل في قاعة المحكمة، ونتيجة لذلك كان على محاميي التركي الدفاع عن شخصياتي الخيالية الأرمنية، تلقيت أيضا الكثير من الحب من القراء في تركيا".
لكنها تضيف: "أعتقد أن هذا ترك ندوبا عليّ بعدة طرق. من حيث السلطات، فمن الصعب جدا أن تكون روائيا في تركيا، وخاصة الطريقة التي كنت أكتب بها، لأنني أتساءل عن الصمت في تاريخنا".
تخوض رواية "هناك أنهار في السماء" معركة أخرى على جبهتين من غير المرجح أن تكسبها، المعركة بين القوى المهيمنة في الشرق الأوسط الأولى ضد بناء الرئيس التركي أردوغان للسدود، والذي أدى إلى غرق مدينة الكهوف القديمة حسن كيف على نهر دجلة، في المنطقة ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا.
وقد نزح منها ما يصل إلى 80 ألف شخص كانوا يعيشون هناك، فيما وصفته مجموعة ناشطة محليّة في عام 2020 بأنّه "نهاية العالم".
تقول شافاك: "هذه المنطقة بأكملها ثمينة للغاية، ليس بسبب تاريخها فقط، ولكن أيضا بيئتها بالنسبة للسد، لم يستمر سوى 50 عاما، فقد دمروا آلاف السنين من القيمة الثقافية والتحف الفنية"، "كما أن بناء السدود يغير تدفق المياه إلى أسفل النهر، ويؤثر على البلدان الأخرى أيضا.
لذلك نحن بحاجة إلى حلول دوليّة. نحن بحاجة إلى أن تعمل البلدان سويةً، بدلاً من أن تأخذ دولة واحدة المياه لنفسها".
الجبهة الثانية لمعركة شافاك كانت اضطهاد الشعب الإيزيدي، وهم أقليّة دينيّة ، واجهت قروناً من المذابح في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ففي عام 2014، هربت نارين وجدتها من فيضان واديهم، ووقعتا في براثن الإبادة الجماعية التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، - داعش- عندما قُتل أكثر من خمسة آلاف شخص، وأسر الآلاف من النساء والأطفال وأجبروا على العبودية الجنسيّة.
تذكر شافاك: "إن الإيزيديين من أكثر الأقليات تعرضا للتشهير وسوء الفهم والمعاملة من قبل كل الثقافات والأديان المحيطة بهم على مر التاريخ،
وهم مجتمع حساس وضعيف وجميل للغاية، وأريد أن أتحدث عن هذا، لأنه في الوقت الذي نتحدث فيه، قد يكون هناك ما يقرب من 3000 امرأة وفتاة إيزيدية ما زلن مفقودات. والعديد من هؤلاء النساء محتجزات وأسيرات في تركيا وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية.
قبل بضع سنوات فقط، تم اِنقاذ فتاة إيزيدية من منزل في حي أنقرة حيث نشأت شافاك هناك. تذكر شافاك ذلك قائلةً "على بعد بضعة شوارع فقط من منزل جدتي، في منزل عادي آخر، تم أسر فتاة وعانت من قسوة مروعة. كَيفَ من الممكن أن الناس لا يرون؟ كَيفَ من الممكن أن يكونوا مخدرين إلى هذا الحد؟ "هناك الكثير مما لا يزال يتعين علينا التحدث عنه، لأن الإبادة الجماعية لم تنته بعد".
تتمحور أحداث الرواية كلها حول أسئلة ذات أهمية بالغة تتعلق بالتاريخ الاستعماري وملكية القطع الأثرية الثقافيّة. وبينما كانت تكتب الرواية، ارتفعت درجة حرارة المناقشة فجأة، مع الفضائح المتعلقة بالسرقات المزعومة من المتحف البريطاني في لندن ومصدر الأشياء الموجودة في متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك.
لِمن ينتمي التّراث الثقافيّ؟" تسأل شافاك "إنها قضيّة مهمة بشكل خاص بالنسبة للعديد منا، نحن القادمين من العالم الشرقي. بالطبع، ينتمي التّراث الثقافيّ إلى البشريّة جمعاء. إلا أنه  في الوقت نفسه، ينتمي إلى الأقليات في المنطقة، والتي لا نتحدث عنها أبدا. إنه أمر معقد للغاية. هناك طبقات متعددة من البشر. لهذا السبب أردت كتابة هذه الرواية - لمعالجتها".
يذكر أن رواية "هناك أنهار في السماء" لإليف شافاك سيتم نشرها في الثامن من شهر آب الحالي عن دار فايكنج التي تدعم صحيفتي الغارديان والأوبزرفر.

عن الغارديان