الفلسفة في الوجود الرقمي

ثقافة 2024/08/06
...

 عبد الغفار العطوي

الرقمنة هي فلسفة تهتم في كيفيَّة تحويل الجوانب المادية في عمليات الأعمال وتدفقات العمل إلى جوانب رقميَّة، يستطيع نظام الحاسوب استخدامها كمعلومات رقميَّة، بعد أن تمَّ تحولها من معلومات ورقيَّة نحو نماذج رقميَّة، وتمكنت تلك الفلسفة من أن تشعل الوجود الإنساني بثورة رقميَّة مذهلة شملت كل شيء في هذا الوجود، وراحت تبشر بقيام حضارة رقميَّة مرعبة، على غرار ما قامت به الثورة الصناعيَّة، ويمكننا تصنيفها بالثورة ما بعد الصناعي، وإنشاء مجتمع جديد رقمي.

 وإن أهم ما قدمته هو ما يخص الناحية الاقتصادية. إذ يمكننا القول بأن الثورة الرقميَّة صنعت المجتمع ما بعد الصناعي الذي لم يعد يعنى بزراعة الأرض، أو إنتاج سلع مصنعة، بل بالعناية بالبشر وبأجسادهم وخيالهم، فكل شيء يتم عبر الانترنت، غاية في أن يكون الترفيه والتعليم والعلاج والتودد في الحديث أموراً متاحة بأقل تكلفة. 

ولعل جائحة "كوفيد" أسهمت في الإسراع في قيام الثورة الرقميَّة، من حيث قلبت أنماط الحياة في عالمنا، وبرزت الحاجة إلى التغلّب على العزلة التي ضربت "الكورونا" مساحات التواصل الاجتماعي المباشر بها، نحو توفير طريقة من التواصل عن بعد التي أنيطت بالشركات الكبرى للاتصالات لحل الأزمة مثل "أمازون، آبل، نتفليكس" وبدا الكون الرقمي يرسي أول معالم الثورة الرقميَّة في هذا الوجود الأرضي، بدءا "المكانيّة الرقميّة" التي تعني إعطاء أهمية للموقع الجغرافي بعد إن صرنا نعيش في عالم متشابك ومعقد. 

وقد تناولت اريك جو ردون وادريانا دي سوزاي سيلفا في كتاب "المكانيّة الرقميّة" أهمية الموقع الجغرافي "جي بي إس" في مسار الحضارة الرقميّة التي نحياها، ففي عام 2010 بدأت جوجل في دمج بيانات الموقع الجغرافي في كل بحث، فيمكن لهواتفنا المحمولة الذكية من خلال العديد من التطبيقات أن تحدد موقعنا، وأن تحدد المعلومات القريبة وذات الصلة بها، كالتكنولوجيات التي تستخدمها للدخول إلى الويب هي ذات إدراك مكاني، وتنمو مقدار البيانات المتوفرة على الانترنت من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. فالمكانية الرقمية هي أولى الخطوات لولوج الوجود الرقمني، وبعدها نمضي نحو الكون الرقمي الذي تشكل الشبكة العنكبوتية أهم معالمه النشطة في التحول إلى الحضارة الما بعد الواقعية نحو الوجود الرقمي. 

يطلق بيتر بي سيل في كتابه "الكون الرقمي" على التحولات في تكنولوجيات المعلومات والاتصالات القائمة على الكومبيوتر وآثارها الضخمة على حياتنا المعاصرة، بالثورة العالمية للاتصالات، فقد تغير الكون المحيط بنا، من صورته النمطيَّة البطيئة نحو كون رقمي في الاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي. 

إنّه عصر جديد ولد من رحم عصر كلاسيكي، غير مسبوق نتيجة تطور الإنسانيّة، شهد الذين ولدوا بعد عام 1940 تعزيزاً مذهلاً للعقل البشري، عبر إمكانية الوصول عبر استخدام شبكة الانترنت إلى مجموع معلومات العالم المخزنة، وتضاءلت عوامل الاختلاف بين اللغات البشريَّة التي كانت تعوق الاتصال والتواصل بين انحاء العالم البشري بفعل الترجمة عبر الانترنت. 

ولعل الإنجاز السريع في تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات المعلومات الرقميَّة المتدفقة في مسار الكون الرقمي جعل رؤيتنا له كمن يشاهد وهو يسافر في قطار فائق السرعة المنظر الخارجي عبر زجاج النافذة، من حيث عدم الاستيعاب سوى لحركة عينه وهي تتلقى تفاوت الضوء. 

وبيتر بي سيل في "الكون الرقمي" يركز على جملة من المعطيات، ما تكوين الكون الرقمي، ودراسة تاريخ الانترنت والويب؛ نشأته وتطوره، وكذلك يتناول المكتشف الرقمي المهم، الاتصالات عن بعد التي أسست لوجود رقمي قلب حياة البشر من نمط العيش التقليدي نحو الحياة التفاعليَّة عبر تقارب الوسائط والرؤى الديستوبية، إذ تطلب مد الحياة الرقميّة التي تحيط بالإنسان الرقمي بالسيطرة على الانترنت، وخلق ثقافة سيبرانية، وإيجاد نوع من الرقابة على الانترنت، مما أدى إلى إحاطة البشريّة بحدود من العوازل السيبرانية الموجهة لثقافة خفية تقود الكون، حتى بات من المحتمل أن يكون مستقبل الإنسان مظلماً. 

وتتعرّض مصالح البشر الرقميين إلى تحديات مصيريّة قد تحول حضارتنا إلى وهم رقمي، بسبب "الطوفان الرقمي" الذي جعل "هال أبلسون، وهاري لويس، وكين ليدين" في كتابهم المشترك "الطوفان الرقمي" في البحث كيف يؤثر ذلك الطوفان في "داتا" المعلومات على حياتنا وحريتنا وسعادتنا التي رسمتها معالم حضارة رقميّة آليّة في تقانات نمطيّة من دون روح ولا عواطف وإيمان. 

ويطلق مؤلفو الطوفان الرقمي على كميات المعلومات المذهلة التي لا يستطيع البشر استيعابها بـ "الانفجار الرقمي" الشبيه بالانفجار العظيم الذي أدى إلى نشوء الكون، ومن نتائج هذا الانفجار الرقمي أن التعري في وضح النهار عادة طبيعية، بسبب احتمالية فقدان الخصوصية، أو التخلي عنها! فالعالم لم يعد ملك أحد منا، أي صرنا عراة من خصوصيتنا. وهذا التعري يكون لصالح جهة معينة خفية تراقبنا في وسائل التواصل الاجتماعي كافة، كما تصورها جورج اورويل في رواية 1984. 

ومن الطريف أن "الإنسان الرقمي والحضارة القادمة" دانيال كوهين تؤسس لهذا المنحى من السلوكيات في العصر الرقمي، من حيث أن هذا العصر مثل الثورات الصناعية التي سبقته، يؤدي بدوره هدفاً بسيطاً يجعل العمل البشري أكثر انتاجية، لكن كوهين يستدرك، وأن اختلافه الرئيسي الأساس عن ثورات الماضي في شيء محدد هو أن الإنسان يمثل الرافعة والكتلة. ماذا يمكنه أن ينتج بمساعدة الذكاء "آي إي" الوهم الرقمي؟، وهذا هو المتوقع حين ينظر نحو العالم المدمّر الذي تحتله فقط فلسفة الرقمنة، تصنع له مستقبلاً خالياً من المظاهر البشريّة، وهو ما يحذر منه الباحثون في الاعتماد على ثورة الرقمنة التي توظف الذكاء الصناعي بديلاً للإنسان الرقمي في مستقبل مظلم بدءا من موت القرن الحادي والعشرين وحلول شتاء قاس قادم، نحو إنشاء حضارة رقميّة يعد فيها الإنسان الرقمي نظرية قديمة تدرس بوصفها من كلاسيكيات عصر قديم. إنّ الإنسان الرقمي سيتحول لمجرد رقاقة في عالم تقاني بارد، وها نحن نغذ السير باتجاهه.