هل أصبحت الرواية طريقاً للتكسّب؟

ثقافة 2024/08/07
...

صفاء ذياب

الحديث عن التكسّب لا يوجّهنا إلَّا إلى الشعر، فهو الطريق المعروف منذ أن كان حداءً حتَّى اليوم، فالتكسب بمعانيه العديدة كان سمة ملاصقة للشعر، منذ أن بدأت موضوعاته بالتفاخر بالقبيلة، التي كانت تجعله علمها الأول- وهذا تكسّب آخر- وصولاً إلى تأسيس الدولة الإسلامية والأموية والعباسية، التي جعلت من الشعر منبراً لمدح ولاة الأمر بأشكالهم المختلفة.

غير أنَّ التكسّب لم يقف عند هذا الحد، حتَّى وصلنا إلى مفاهيم القائد الضرورة التي كانت القصيدة المادحة له تكسب ملايين الدنانير في تسعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى الدفاع عمّا يسمّى بحماة الوطن الآن، فحصلوا بسبب مدائحهم على مناصب أصبحت ظاهرة للجميع.
لكن الشعر، حتى إن كان بادئاً، لم يبقَ وحيداً في هذه الساحة، فكتابة النصوص السردية وهي تمدح الحرب والبطولات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي- عراقياً- أصبحت طريقاً أكبر وأضمن لهذا التكسّب، وصولاً إلى السير الذاتية التي كتبها روائيون معروفون لقادة الجيش والسياسيين العراقيين، ففضلاً عن طباعة هذه الكتب (الموجّهة)، يحصل الروائي على خمسة ملايين، حتَّى أصبح الروائيون يتدافعون لكتابة أعمالٍ كهذه.
ومع تغيّر الظروف السياسية والاجتماعية، انتقل مفهوم التكسّب إلى الجوائز، ففي كلِّ عام تظهر جائزة تختصُّ بالرواية، بمال غالباً ما يكون خليجياً، وصولاً إلى آخر جائزة أعلن عنها مؤخّراً، حتَّى أن النقّاد والروائيين لم يفكّوا طلاسم إعلانها.. بل لم يفهموا إلاَّ قيمة الجائزة المهولة.
فبعد أن كان الشعر يوصف بأنّه فنَّ التكسُّب على مدى قرون طويلة، هل انتقل التكسّب من الشعر إلى الرواية؟
الجواري الأدبية
يشير الناقد الدكتور أحمد الزبيدي أنَّ البنية الأسلوبية للنوع الأدبي لعلَّها تُغري السلطة على أن تشتريها، لترقص لها على النغمات التي يستمتع السلطان بسماعها؛ وهذا ما كان من سوء حظ البنية الشعرية، ومن حسن حظ الشاعر المتكسب! حتَّى أمست القصيدة كجارية يأمرها صاحبها أن ترقص وتخدم (الخليفة) ولا يهم إن كان: جباناً وبخيلاً وطاغية وعاهة.. فالأهم هو أنَّ اللغة لديها الطاقة السحرية على أن تجعله كريماً وسخياً وشجاعاً ومستقيماً.. غير أنَّه ليست بنية النص وحدها المسؤولة عن استجداء رضا السلطان وإنَّما يعود الأمر إلى صاحب النص نفسه.. بمعنى أنَّ المسألة هي مسألة أخلاقية قبل أن تكون جمالية.
ولا شكَّ في أنَّ الجنس الروائي كان أبعد الأجناس الأدبية العربية عن السلطة، وحين أقول (كان) فلأنَّ الرواية حديثة الولادة ممَّا جعل عقد التخادم مع السلطة حديثاً، ربَّما بدأ عندنا في العراق مع السلطة الدكتاتورية البعثية وروايات قادسية صدام وأدبه ثمَّ استجابة قسم من القصّاصين لرؤية القيادة الفذّة!! على كتابة الرواية في تسعينيات القرن الماضي بدلاً عن النص القصير. وهكذا بدأت العلاقة تنمو حتَّى أصبحت متجاوزة حدود البلد إلى البلدان القريبة أو البعيدة وسياساتها فتكتب الرواية وتُفصّل لغتها وسردها حسب قياس جسد السلطة! ولهذا تغيب بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية عن المشهد الروائي لأنَّ الجهة المانحة للمال لا ترغب بسماع تلك الأصوات ونحيبها الموجع.. وهكذا صار الروائي شريكاً في تجارة (الجواري الأدبية)!
حق ثقافي
وبحسب الناقد الدكتور عقيل عبد الحسين، فالأدب، والرواية عموماً، تُكتب من أجل قارئ مُتخيّل، أو افتراضي، كما يسمّيه أصحاب نظريات القراءة، ويعدّونه أساسياً لتحقّق الكتابة، أو عموميّ، يشمل أنواع القرّاء الفعليين على اختلاف بيئاتهم وثقافتهم، أو نوعيّ: محدّد بسمات عامة، كأن يكون الأكاديميّ أو النخبويّ، أو المنتمي إلى طبقة مثل: الثوريين أو الفلاحيين أو الأرستقراطيين. وقد يُكتب لقارئ ينتمي إلى مؤسّسة أو جائزة لها سياستها الأدبية والثقافيّة، فليس عيباً أن يكتب الكاتب روايته وفي ذهنه جائزة؛ لأنَّها نوع من القرّاء. وحقّه أن يبحث عن المكسب ما دام هو صاحب صنعة، والكتابة صنعته، وما دام لا يحقّق كسباً من بيع رواياته، هذا إن بيعت بسبب بعد الناس عن الثقافة والقراءة، وما دام، إلَّا الندرة من الكتّاب، يطبع روايته (من كيسه).
ويضيف: للجائزة فوائد تلحق الكاتب، جديرة بأن يسعى إليها، منها أنَّه سيكون مقروءاً، وسيطبع أكثر، وتُتاح له فرصة اللقاء بجمهوره مباشرةً، مثلما تفعل البوكر، فتحوّله إلى نجم ثقافي يكون له تأثير في توجيه ذائقة جمهوره وأفكارهم، وهذا في حدِّ ذاته جيّد اجتماعياً؛ لأنَّ من الضروري أن يكون لمجال الأدب، والرواية، نجومه الذين يمتلكون القدرة على منافسة، وتقليل نفوذ نجوم وسائل التواصل، ونجوم الدين والسياسة وغيرهم؛ فليس، إذن مذموم، سعي الكاتب إلى لجائزة، أيَّاً كانت الغاية: تكسّباً، أم نجومية، أم رغبة إنسانيّة طبيعيّة في الاعتراف والرضا عن الذات. وهذه الأخيرة كبيرة عند الكاتب، المهمَلِ، غالباً، نقدياً وقرائياً وثقافياً.
يبقى أن أشير إلى أنَّ قضية المعايير الأدبية والموضوعات الأدبية أصبحت محلَّ نقاش النقاد؛ فمن الصعب الاتفاق على أيٍّ منها.
الانشطار على الذات
ويرى الناقد الدكتور عباس آل مسافر أنَّ دوافع الكتابة تختلف عند كلِّ أديب سواءً كان شاعراً أم روائياً، فإنَّه كما يوجد روائيون يكتبون من أجل الكتابة والمتعة، فإنَّ هناك روائيين في الجانب الآخر قد يكتبون من أجل المال فقط، وهذا الأمر بقدر ما هو دافع مشروع للكتابة، فإنَّه قد يقلّص فرصة الحصول على الإنتاج الثقافي الجيّد ويضيّع ملكة الإبداع عند الكاتب، فقد يلجأ الكاتب إلى الكتابة وفق التفاصيل المطلوبة منه وليس وفقَ خياله وإمكاناته الأدبية لصهر أحداث الرواية وإخراجها بطريقة فنية لائقة وجديرة بالاهتمام.
وقريباً من هذا الموضوع، يذكر مؤرّخو الأدب أنَّ الروائي الروسي ديستوفسكي (1821 - 1881) كان يكتب بحسب طلب الدار التي تنشر أعماله، وكان يتعمّد أن يزيد في الأحداث ويطوّلها من أجل زيادة في كسب المزيد من المال؛ فقد كان المعيار في دار النشر هي حجم المنتج الثقافي، لكن مع تزيّده في الأحداث لا نشعر بأنَّ هناك خللاً فنياً فيما كتبه من روايات وقصص ومذكّرات؛ بسبب حرفته الأدبية.
وقد يكون الروائي مضطرّاً تحت أنواع الضغوطات التي رُبّما تكون مالية أو أخلاقية أو سياسية أو شروط مسابقة أو سياقات مهرجان معيّن للكتابة في موضوع روائي معيّن قد لا يرغب شخصياً الكتابة فيه أو لم يخض التجربة حوله أو لم يفكّر فيه من قبل، عندها سيكون الروائي منشطراً على نفسه.
ولو أخذنا مثلاً قريباً جداً من واقعنا حين كان يُطلب من القصاصّين والروائيين العراقيين في الثمانينات أبان اشتعال الحرب آنذاك أن تكون كتاباتهم منصبّة على الحرب وتصوير مشاعر الفخر والانتصار لدى المقاتل ونقلها للمتلقي حتَّى إن كانت غير حقيقية، وفعلاً تمَّ ذلك طمعاً بالفوز بجائزة أو بالمكافأة، في حين كان القاص والروائي يحاول أن يعبّر عن أثر الحرب فيه بوصفه فنّاناً كما هو الحال عند القاص “محمد خضير”.
رغبات الارتزاق
ويبين الروائي صلاح صلاح أنَّ التكسّب من الشعر، بوصفها مهنة، استخدمت ليس لدى العرب فقط. لكن ما لا يفهم الآن، أنَّ التكسّب يفقد القيمة الأخلاقية للعمل الأدبي. هناك من التزم بالمفهوم الأخلاقي للشعر، جعله برّاقاً في خدمة الحقيقة، هؤلاء دفعوا ويدفعون ثمناً لمواقفهم، فهم الأحرار.
في الرواية أيضاً صار يفعلها البعض، ليس أكثر من ارتزاق. ليست لديهم أيّة رسالة أخلاقية أو ثورية في الحياة، ومن الثورية طبعاً الانحياز إلى شعبهم وأمّتهم والحقيقة والسلام. فهناك من يحاول الاستفادة من رغبات الارتزاق لدى البعض، فيتمُّ تشجيعم وإدخالهم في الترويج لمشروع أو (أجندة) كما يقال. الكثير أو العديد من الجوائز العربية صارت الآن مصدراً للشبهات وبيع الضمائر.
ويضيف صلاح: شخصياً لا أشعر بالارتياح أو الخوف بشكل أدق، لأنَّ هذه الجوائز ببساطة صمّمت لأهداف، ضمن مشروع أكبر وهو الإفساد، وهذا ليس قادماً من نظرية المؤامرة، بل الحقيقة. انظر إلى المشهد الثقافي والإعلام بشكل عام وللترويج لثقافة الاستسلام والخنوع وغيره. خطورة هذه الجوائز أنَّها تقنع العامة (الجماهير) إذا لم نزل نستخدم هذا المفهوم الثوري، بنموذج المثقف الجديد- المسالم، الخاضع، المستسلم، غير المقاوم، النذل- ولا علاقة لها طبعاً بالإبداع أو الريادة أو الأصالة والأمّة والصراع أو حتّى نقد الحاضر الذي يدمّر أمامنا بتخطيط مسبّق ومدروس. يبدو أنَّ البعض فهم اللعبة، ولأنَّه بلا مبادئ أصلاً أو لنقل مرتزق، فإنَّه صار يعمل وفق هذا المنظور لتشكيل الرأي العام، انظر إلى أين أوصلنا المال القذر.
الاستجابة للرائج
وبحسب وجهة نظر القاص والناقد علي كاظم داود فإنَّ الشعر ما يزال مضماراً للتكسّب، لاسيّما في المسابقات وكتابة المدائح والأهازيج والأناشيد الحماسية، في العراق وبعض الدول العربية، كدول الخليج، أمّا التكسّب بالرواية فهو قليل جداً، والفوز بجوائزها لا يتاح لكثير من الكتّاب، ثمَّ أنَّ المسابقات الخاصة بالرواية أقل من تلك المسابقات المخصّصة للشعر. وأمَّا الربح من خلال نشر الروايات فهو أندر بكثير، فأغلب الكتاب هم من يدفعون للناشرين من أجل طباعة رواياتهم وتوزيعها، ولا يقبضون منهم فلساً.
لكن، في العموم، يمكن القول إنَّ التكسّب بالرواية حالة موجودة على أيّة حال، فقد شهدنا عدداً كبيراً من الروايات كتبت على غرار الروايات التي فازت بجائزة البوكر العربية مثلاً، سواءً على مستوى الشكل أو الموضوعات، فوجدناها تتناول بالخصوص موضوعات الأقلّيات الدينية والعرقية في المجتمعات العربية الإسلامية؛ لأنَّ الروايات التي فازت سابقاً خاضت في هذه الجوانب. كما أنَّ بعض الكتّاب أخذ بمجاراة سوق النشر والكتابة، والروايات الأكثر مبيعاً، كالروايات الرومانسية، أو التي تنتهك المحظورات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.
موضحاً: ملاحقة المال أو الشهرة من خلال كتابة الرواية، أمر مشروع للكاتب، لكنّه لن ينتج رواية خالصة لوجه الفن الروائي، والكاتب الذي يستجيب للرائج والمطلوب في سوق الجوائز والنشر لن تكون روايته متجرّدة من النوازع والانحيازات والإكراهات، وهو ما يقلّل من قيمة الرواية، بوصفها فضاءً حرّاً يسعى إلى تمثيل العالم ونقده وتغييره نحو الأفضل.
التنازل عن الشخصية
ويختتم الروائي علي الحديثي حديثنا قائلاً : إنَّه بغضِّ النظر عن صحّة الأمر أو خطئه، إلّا أنّنا منذ أن عرفنا الشعر وهو، في كثير منه، طريق للتكسّب، حتَّى بات الأمر اعتيادياً في أذهاننا، ربَّما الموسيقى التي فيه وطريقة إلقائه، وتحفيزه وشدّ حماسة الآخرين في المناسبات، هو الذي جعله سهلاً لهذا الطريق...
إلّا أنَّ المثير للاستغراب أن تكون الرواية طريقاً للتكسّب، وهي تفتقر لما في الشعر من مقوّمات تؤهّله لذلك! ولكن من خلال ما يدور حولنا من أحداث وظروف تجعلك تعرف يقيناً أنَّ المال هو المحرّك الأساس لهذا التوجّه، فقيمة الجوائز رهن بمبلغها، ممّا جعل كثيراً ممّن يكتبون الرواية يتنازلون عن أفكارهم التي يؤمنون بها، من أجل سياسة الجهة المانحة، ممَّا أفقد الرواية نكهتها، وجعلنا لا نبحث عن فكر الروائي، وهواجسه، بل عن السبب الذي جعلها تفوز في تلك المسابقة أو هذه...
الكتابة هي شخصية الكاتب، فمن كتب من أجل جائزة أو مال، فكأنَّه تنازل عن شخصيته للآخر.. جعل من رأسه كرة يتقاذفها ذوو المال بأرجلهم...
وبرغم رأيي هذا، أبقى اتساءل: هل من كتبوا من أجل الجوائز (المال) مخطئون وهم يعيشون في عالم يحترم صاحب المال أكثر من احترامه لصاحب الفكر؟ وهم يعيشون بين شعوب تصفّق وتستأنس بما يقوله من نال جائزة بغضِّ النظر عن فكره ووعيه، وهو الصحيح عندهم، وما عداه مشكوك بأمره... لست مع من يكتب من أجل الجائزة.. ولكنّهم هم الواقع..