رخصة السّفر: التاريخ الثقافي لجواز السّفر

ثقافة 2024/08/07
...

سليم سوزه

عبر عالم من الحكايات المثيرة والمفارقات الغريبة، يأخذنا مؤلف كتاب “رخصة السفر: التاريخ الثقافي لجواز السفر”، الدكتور باتريك بيكسبي، أستاذ اللغة الإنگليزية والدراسات الثقافية في جامعة ولاية أريزونا الأميركية، في رحلة للتعرّف على تاريخ وأصل ظهور الوثيقة الحديثة المسماة بجواز السفر، تلك الوثيقة الرسمية التي تختزل أجسادنا إلى كتيب ورقي صغير وتحوّل كياننا إلى محض صورة وأسم وتاريخ ميلاد ومجموعة معلومات أولية فحسب. من دون هذه الوثيقة، لسنا سوى كائنات بلا هوية لا يحق لها السفر والتنقل بحرية بين بلدان العالم شتى؛ أسرى حدود فرضها علينا المنتصر وجعلنا سجناءها إلى الأبد ما لم يمهر تلك الكتب الورقية الصغيرة موظف الجوازات الحكومية.
يقع الكتاب، الذي تُرجِمَ حديثاً إلى اللغة العربية وصدرت نسخته الأولى قبل بضعة أشهر فحسب عبر دار نابو للنشر ببغداد، في سبعة فصول. يتحدث الكتاب عبر فصوله السبعة عن تطوّر فكرة جواز السفر مفهوماً وشكلاً ووظيفة، إذ صارت هذه الوثيقة التي كانت نوعاً من الترف في عهد الامبراطورية الأخمينية أهم وثيقة للتحكّم بمصير الأفراد ومراقبة تنقّلاتهم في العصر الحالي. من كان يصدّق أن لوحاً طينياً بدائياً ممهوراً بمهر الحكام الأخمينيين لضمان سلامة رعاياهم في التنقل عبر الامبراطوريات المجاورة يتحوّل إلى ما يشبه النير في أعناق الأفراد في يومنا هذا.
يذكر بيكسبي حادثة طريفة وقعت في نهايات القرن المنصرم، إذ عقدت الحكومة الفرنسية اتفاقاً مع الحكومة المصرية تستقبل بموجبه وزارة الثقافة والآثار الفرنسية جثة الفرعون المصري رمسيس من أجل تحليلها وحفظها من التفسّخ الذي ظهرت علاماته على المومياء وقتها. لكنه ووفقاً لتعليمات وزارة الخارجية الفرنسية، لا يمكن السماح لأي أجنبي، حيّاً أو ميّتاً، من الدخول إلى الأراضي الفرنسية من دون جواز سفر، حتى لو كان مومياءً لفرعون مصري مات قبل نحو ثلاثة آلاف عام. اضطرت الحكومة المصرية إلى إصدار جواز سفر حديث لرمسيس المومياء وعليه صورته بشكله المتحجّر والمخيف مع بضعة أسطر ومعلومات عن طوله ووزنه وشكله وتاريخ ميلاده وموطنه الأصلي حتى استقبلته الحكومة الفرنسية على أرضها. وسواء كانت هذه القصة حقيقية أم من نسج خيال الشبكة العنكبوتية، يقول بيكسبيإ جواز السفر لم يعد وثيقة رسمية تتحكم بحياة الأحياء وتنقلّاتهم فحسب، بل بحياة الأموات كذلك، حتى أولئك الذين ماتوا قبل أن يفهم الإنسان معنى الحدود والدول أصلاً. فنطازيا تُظهر مدى سلطة الورق على كيان الإنسان وروحه ومشاعره لتحوّله إلى محض ملف في سجل الدولة الرسمي.
في الكتاب، قصص وحكايات ومفارقات عجيبة وغريبة ومسلّية في آنٍ واحد، حصلت عبر التاريخ لشعراء ومثقفين وروائيين ورجال ساسة مشهورين بسبب جوازات سفرهم. سياحة وقراءة عميقتان لثيمة الجواز ورمزيته في الأعمال الفنية كالرسم والمسرح والرواية والسينما وأدب الرحلات، يتناولها بيكسبي بشيء من التحليل الثقافي، وهو المتخصّص في الدراسات الثقافية، ليبيّن لنا كيف أن كتيباً ورقياً صغيراً اخترعه الإنسان وتحكّمَ به صار يخترع ذلك الإنسان ويتحكّم به. لم يعد ذلك الكتيب الصغير الذي وُلِدَ من لوحٍ طينيٍ أخميني محضَ هويةٍ معرِّفة للفرد فحسب، بل رمز ذو أثر ثقافي ومادي كبيرين على حامله كذلك. فالجواز الأميركي أو الفرنسي أو البريطاني، مثلاً، ليس مثل جوازات دول العالم الثالث. قوة هذه الجوازات من قوة بلدانها وهيمنتها الثقافية والامبريالية. إنها ورق تأخذ معناها وسلطتها الرمزية والمادية من معنى وسلطة بلدانها، بمعنى أنها ليست جوازات مرور الأفراد عبر البلدان فحسب، بل جوازات مرور السلطة والقوة عبر تلك البلدان كذلك.
هذه هي ثيمة الكتاب وفرضيته الأساس.
لقد قضيت أسبوعاً كاملاً في قراءة هذا الكتاب المترجم إلى العربية حديثاً، وتعرّفت على كم هائل من المعلومات والأسماء والمدن والأحداث لم أكن أعرفها في السابق. تعرّفت أيضاً على سير حياة عدد كبير من الشعراء والمثقفين والروائيين الأوروبيين لم أسمع بحكاياتهم مع جوازات سفرهم من قبل. ورغم أنني قرأت الكتاب في اللغة الإنگليزية بإهداء أستاذي ومشرفي السابق على رسالة الماجستير، الدكتور باتريك بيكسبي، لكنني لم أتفاعل مع النص الإنگليزي الأصلي بقدر تفاعلي مع النص العربي المترجم. لقد برعت الدكتورة المترجمة هناء خليف غني في ترجمة الكتاب ونقل روحه إلى العربية بلغةٍ صافية وسلسلة ومفهومة لم أشعر معها باغترابٍ لغوي ولا صعوبة في فهم النص البتة. كان نصّاً عربياً جميلاً بذلت فيه المترجمة غني جهداً عظيماً تُشكَر عليه.