المصطلحُ النّقديّ ورهانُ صناعتهِ

ثقافة 2019/06/17
...

د. نادية هناوي
تتعددُ صناعةُ المصطلحاتِ وتتزايدُ بتعددِ حقول النقد وما بعد النقد، كما تتباين بتباين فروع  المعرفة المتصلة بهما، كأنْ يكونَ المصطلحُ خاصًا بالحقلِالشّعريّ أو السّرديّ أو نظرية الأدب أو التلقي أو الثقافة أو الجمال ..الخ. 
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن معضلة الصناعة الاصطلاحية عندنا أكثر إشكالية منها في النقد الغربي، والسبب أنَّ الأرضيات النظرية في الغرب متاحة أمام الابتداع بحرية، ومتمشكلة بأطر فلسفية واسعة ومتنوعة؛ بينما ينماز التقعيد العربيّ للمصطلح بالتّضاد والتّقاطع والتّفتت والتّشتت ما بين نظريات وافدة وأخرى أصيلة.ولا ننسى أنَّ الحاضنة الثقافية العربية لا تَضْمن للمصطلح النقدي الذيوع كما تضمنه له الحاضنة الثقافية الغربية. ولا يعني هذا أن الإعاقة تكمن في الحاضنة؛ بل في إمكانيات وضع نظرية عربية في النقد، متمركزة بأصولية حول الميراث النقدي العربي ومستجلبة إليها في الآن نفسه ما يفيدها من النقد الغربي.
ولا غرو أن التدليل على الضّلاعة في عملية تقنين المصطلحات وابتداعها سواء بالتأثر بنقد الآخر أو بالتماس مع الميراث النقديّ العربيّ، إنما يكون بقدرة تلك المصطلحات في سبر جماليات النصوص الأدبية والكشف عما تخفيه من 
معانٍ ودلالات.
والمصطلحاتلا تتأتى جزافًا، بلا ارتهان وظيفي يتيح لمستعملها الاشتغال بدقة، مع وضوح في أبعاد التحرك ومديات التطبيق.فنقد النقد مثلا يتعامل معه بعض الدارسين بلا اصطلاحية، خالطين مفاهيمه بالنقد وأحيانا بالتداولية واللسانية والسبب الافتقار إلى رهان واع بطبيعة مفاهيمه وكيفية تقنين مصطلحاته بعلمية.فتغدو مصطلحات مثل القراءة والاستراتيجية والمسافة الجمالية والفجوة والقارئ الفعلي والقارئ المثالي ..الخ وكأنها مفاهيم مع أن رهانات الوعي بها لا تراها إلا منضوية في جهاز اصطلاحي واحد هو نقد النقد الذي فيه تتوفر مهيئات التخصص الدقيق والمرجعية المتأصلة في نظريات التلقي والقراءة ونقد استجابة القارئ. 
ومثل نقد النقد ايضا النظرية النسوية التي ترد فيها مصطلحات مثل غواية الجسد وهيمنة الذكور واستبداد الذكورة والتهميش والتابع والعنصر النسوي وغيرها من مصطلحات التي تمتلك سمات التخصص النظري والتقنين العملي منضوية في خانة النقد الثقافي ودراسات ما بعد الكولونيالية. 
وفي حقل النقد الأدبي مفاهيم كثيرة وبصور وأشكال متنوعة، لكن بعضًا منها ارتقى إلى درجة الاصطلاح بسبب ما تهيأ لمجترحها من وعي أسهم في بلورة المفهوم ليكون مصطلحًا مبتكرًا وعلميا، فيه وضوح الأبعاد مع التمظهر النوعي الذي يميزه عما يرادفه،كما نجد ذلك في مفاهيم رؤية العالم والوعي الممكن والوعي القائم التي وضعها لوسيان غولدمان وأفاد النقاد العرب منها في توجهاتهم النقدية
 السوسيونصية.
وطرح شكري عزيز ماضي مصطلح( السرد المهجن) وبإضاءة منهجية وصفه بأنه( مفارقات بنائية أو نسيج سردي جديد تدخل في تكوينه بصورة أساسية المفارقات المتعددة وعناصر وأساليب من فنون السرد القديمة مثل المقامة والسيرة والملحمة والرواية التاريخية التقليدية ومن الرواية الحديثة).وطبّقه على روايات اميل حبيبي كما اجترح مصطلح السرد الفيسفسائي وقصد به السرد الذي لا ترابط في سلوك الشخصيات ولا تسلسل أو سبيية في الأحداث، مع تماهي الأزمنة وثبات المكان وتنوع الومضات وتعدد اللقطات. وابتدعجابر عصفور مصطلح( المرآة والمرآوية ) وأعطاه سمة اصطلاحية بعد أن طبَّقه على نقود طه حسين. 
علما أن بعض المفاهيم لا تصلح لأن تقنن كمصطلحات، بسبب اتساعية ما تدل عليه فالنص مثلا نظّر له فان دايك على أنه مفهوم نصي عام، ومثله الأسلوب والسرد والنحو فهذه علوم وليست مصطلحات إذ أن من شروط الوعي بصناعة المصطلح أن يتوفر في المفهوم عاملان مهمان هما الحصر والتقييد اللذان يمنحان الاصطلاح الوليد مدلولية مخصصة ومقصودة كما يتيحان له حسن الممارسة والتطبيق. وهذا رهن بقدرة الناقد وباعه في الرصد والتحليل.
وبعض المصطلحات لا يتهيأ لها أن تكون كذلك إلا بشرط المضي الزمني، بمعنى أن تدشينها يستدعي مديات تعطي للمصطلح مدلولية تثبت صحة الاجتراح. وهو ما حصل مع مصطلحات قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة والقصيدة الحرة أو الشعر الحر. وبالمقابل فإن كثرة تداول بعض المقولات والمفاهيم ومرور زمن على صياغتها لن يجعل منها اصطلاحات كما في مقولات أدب الداخل وأدب الخارج ومفاهيم القصة القصيرة جدا والقصيدة الومضة وغيرها؛ التي لم يتمكن النقد من ايجاد الأرضية الاصطلاحية
 المناسبة لها.
وقد لا تكون الصناعة الاصطلاحية مقصورة على النقاد وحدهم ففي أحيان كثيرة نجد الشعراء والروائيين قادرين أيضا على إنتاج مصطلحات يصوغونها ويتبنون توظيفها في إبداعاتهم بناء على ما يتملكونه من ذائقة فنية وبوعي نقدي أصيل. وهذا ما نجده عند ادونيس صاحب مصطلحات التحول /الثبات والإبداع /الإتباع
 وصدمة الحداثة. 
ومن اشتراطات الوعي النقدي في اجتراح المصطلح وتوليده تحلي الناقد بباعٍ مناسب من التعمق النظري إلى جانب تمكنه النقدي في التعاطي التطبيقي مع مختلف النصوص الإبداعية. ويعد التخصص الدقيق ومداومة النظر في طروحات النقد العالمي ضروريًا بشرط البعد عن الانبهار المتمادي أو التحفظ المغالي مع الاقتراب من نزعة التقنين بانفتاح وموضوعية.
ومن النقاد العرب الذين تمتعوا برؤية نظرية في الاصطلاح إلى جانب باعهم المميز في النقد الاجرائي الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي الذي اجترح مصطلحات القارئ المختلف وانكسار النمط والقبحيات والزواج السردي والتشريحية والتأنيث..وكذلك تمتع الناقد العراقي بنضج منهجي وحذق تطبيقي واضحين وهو ينفرد في اعتماد مصطلحات ابتدعها وداوم على تطبيقها، مثل الناقد عبد الجبار عباس الذي ابتكر الرواية الفكرية والرواية الشمولية والملحمية سابقا بذلك مرحلته، ومتفوقًا على مجايليه ومتحليا بأفق نقدي متفتح هو أعمق من أن يبهره منهج غربي، وأوسع من أن تحيط بإبداعه النقدي، نظرية بعينها أو رؤية 
فكرية ما. 
عموما؛ فإنَّ التطلع نحو صناعة اصطلاحية عربية يظل رهنًا بالقدرة على نفض التراكمات الاستعمارية والإصرار على النهوض العلمي والمعرفي الذي به ندحض الاستحواذ ونقلب الهيمنة. وواحد من ممكنات هذا النهوض امتلاك جهاز اصطلاحي نقدي عربي يتفاعل ولا يستحوذ ويحاور ولا يصادر، كما ينبغي أنْ يكون موحدا أو متفقا عليه، فلا تختلط فيه المفاهيم والأوصاف، ولا تتداخل اجرائياته ولا تتضارب مواضعاته. 
وجمالية العمل النقدي المنهجي السليم تكمن في اعتماد الناقد على هذا الجهاز، منتقيا منه المصطلحات، وواعيًا للمفاهيم المعرفية التي عليها يعول في تحليل المادة المقروءة 
ونقدها.