القصيدة الحسينيَّة.. اتجاهاتها ووظائفها

ثقافة 2024/08/12
...

  صلاح السيلاوي 


ابتدأ مدير الأمسية بالحديث عن التجربة النقديَّة للمحاضر وغزارتها وأهميتها، ثمَّ قدم سيرته الإبداعيَّة قائلاً: رحمن غركان أستاذ النقد الأدبي والبلاغة في كلية التربية، جامعة القادسية في العراق، ناقد وشاعر صدرت له مجاميع شعريَّة عديدة إلا أن منجزه في النقد غلب على المستوى الكمي لمنجزه الشعري وسأذكر بعض كتبه النقديَّة الكثيرة ومنها "نظرية البيان العربي/ خصائص النشأة ومعطيات النزوع التعليمي - تنظير وتطبيق"، و "قصيدة الشعر من أشكال الأداء إلى الأداء بالشكل"، و"القصيدة التفاعليّة في الشعريّة العربيّة/ تنظير وإجراء"، و"المنهج التكويني من الرؤية إلى الإجراء/ نحو منهج مقترح في قراءة النص واستقبال المعنى"، و"النص في ضيافة الرؤيا/ دراسة في قصيدة النثر العربيَّة"، و"الشعر فاعلا إرهابيا/ قراءة في خطابات شعرية سالبة"، و"مرايا المعنى الشعري/ أشكال الشعر العربي من قصيدة العمود الى القصيدة التفاعلية"، و"الأسلوبية بوصفها مناهج"، و"المعجم الجامع لكلام القصيدة/ ديوان (لم يعد أزرقا) لمحمد عبدالباري اختيارا"، و"حدوس في استشراف الحجازي المقدس"، و"حواس القصيدة في (كأنه) لأجود مجبل"، ومجموعة أخرى من الاصدارات المتميزة. 

ثم لفت يوسف إلى أن عناوين الدراسات التي أنجزها غركان تشير إلى أن المحاضر يمضي إلى معالجة النصوص بطرق ومناهج حديثة معاصرة، وجّهَ بعد ذلك مديرُ الأمسية سؤالا للمحاضر عن مفهوم الأدب، والقصيدة الحسينيَّة وماذا يعنيان له. 


المعاصرة والوظائف 

ابتدأ المحاضر مجيباً عن تساؤل مدير الأمسية، بقوله: قبل أن أتحدث بالموضوع لا بدَّ أن أوضح المصطلحات الحاكمة في هذه القراءة وهي مصطلح "القصيدة الحسينيَّة، والمعاصرة، والاتجاهات، والوظائف". فالقصيدة الحسينيَّة هذا المصطلح المستقر أذهب به إلى النص الشعري الذي يستمد معجمه ومستويات إيقاعه وصوره ومعناه الشعري من الرمز الحسيني فالقصيدة التي تأتي هكذا، هي قصيدة حسينيَّة تقرأ معجمها فتجده حسينيَّاً خالصاً يستمد ماءه من بحر اسمه الحسين بن علي، والقصيدة التي أجد نبض الإيقاع بها يرجع بالعاطفة إلى المعنى التي تكونه الألفا إلى الأفق الحسيني نفسه، وهكذا إلى الصورة، وإلى شكل البناء، ومن ثمَّ إلى المعنى الشعري العام، فالقصيدة التي تصدر في مكوناتها عن العالم الحسيني هكذا هي قصيدة حسينيَّة.

وتحدث غركان في جانب من محاضرته عن عمر القصيدة الحسينيَّة ومفهوم المعاصرة الذي اعتمده في تطبيقاته النقديَّة فقال: عمر القصيدة الحسينية هو أكثر من 1390 عاماً، أما المعاصرة فقد ذهبت بها إلى ما تواضع عليه الدارسون، إذ انصرف أغلبهم إلى تحديد مدة زمنيَّة لمصطلح المعاصرة هي آخر 25 عاماً، أما القصيدة الحديثة فقد تمتد إلى 200 عام.

ولفت المحاضر إلى تلك الإشكالية التي تعتري مصطلح المعاصرة، لأنَّ البعض يذهب بالمصطلح الى العصر الذي يقسم الى مراحل وقد يتسع لأكثر من 100 سنة، مبيّناً أنَّ المعاصرة بوصفها مصطلحاً عند أغلب النقاد هي ربع قرن تقريباً.


تسعة اتجاهات شعريَّة 

تكلّم بعد ذلك عن الاتجاهات التي رصدها في القصيدة الحسينيّة، مشيراً إلى أنَّ الاتجاه عنده يمثل أفقاً فنياً واحداً ينتظم القصيدة من عتبة العنوان إلى الخاتمة. وأوضح متحدثاً عن ذلك بقوله: رصدت اثني عشر اتجاها، ولكنني حين طبقت ناظراً إلى الشعر العربي كله، رصدت تسعة اتجاهات سارت عليها مئات القصائد سآتي الى ذكرها، إذ لا أستطيع أن أقول هذه قصيدة حسينيّة من دون أن تخضع إلى اتجاه معين. 

وعن الوظائف، أضاف: أذهب بمصطلح الوظيفة هنا إلى الغاية الفنيّة الموضوعيّة، الغاية الجماليّة، الغاية التي ينشدها الكلام الشعري الخالص، وقد رصدت في هذا المتن الحسيني الهائل أربع وظائف رئيسة وجدت أنّ هذه الوظائف الأربع هي المهيمنة، وهناك وظائف جزئيّة لا أنظر إليها، إذ تجد بيتا أو اثنين يحملان وظيفة بعينها، مثل قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد حين يقول "قدمت وعفوك عن مقدمي" الوظيفة هنا اعتذاريَّة، وفي قصيدة أخرى له حين يقول "هتف البشير فقبل ابنك يا علي، بالمعنيين مقبلا ومقبل" وهذه الوظيفة تبشيريَّة. أنا لا أقصد الوظيفة التي ينطوي عليها البيت أو البيتان، بل أنظر الى القصيدة التي تحمل وظيفة مهيمنة واحدة.  


عينة من ربع قرن 

وعاد غركان للحديث تفصيليَّاً عن اتجاهات القصيدة الحسينية مبيّناً: الاتجاهات رتّبت عندي على الكم الذي اطلعت عليه، فالعينة التي اطلعت عليها هي الشعر الحسيني المكتوب خلال الربع قرن الأخير في "المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والسودان، وبلاد الشام، والعراق، والخليج العربي، واليمن"، ناظراً بعد ذلك إلى ما اطلعت عليه من الشعر الحسيني المكتوب في البلاد الاسلاميَّة في ايران وباكستان والمهاجر، استطيع أن أحدد بشكل تقريبي أنّني اطلعت على أكثر من أربعة آلاف بيت، تتوزّع بين مئات القصائد، هي العينة التي حددت من خلالها الاتجاهات والوظائف. أنظر للمشهد الذي يستثمر الحسين رمزاً في العالم منطلقاً من العراق، لأنّه يمثل عاصمة شعريّة هائلة في الشعر وعاصمة في الشعر الحسيني بالذات.

 إجمالاً الاتجاهات التي رصدتها بتمثلات هائلة جداً هي تسعة، وهي: الاتجاه القرآني، وهو اتجاه القصيدة المصنوعة، واتجاه الاستعادة الشعريّة، واتجاه قصيدة الرؤيا، واتجاه قصيدة التناص، واتجاه القصيدة البيانيَّة، واتجاه استلهام الرمز، واتجاه قصيدة القناع، واتجاه قصيدة الاعتراف، وعندي نماذج ليست واسعة جداً لاتجاه البناء اللغوي. وأوضح من يشتغل عليها، عندنا في الشعر العراقي "عبد نور داوود وحسين القاصد"، وهناك القصيدة الدرامية وهذا اتجاه يشتغل عليه بعض شعراء كربلاء.

عندما وجدت أنَّ هذه الاتجاهات التسعة مهيمنة عملت على قراءتها، أما الوظائف بحسب الكثرة كانت الوظيفة الاعلانيَّة هي الأوضح، تليها الوظيفة الإبلاغيَّة، ثم الوظيفة الشعريَّة، أما الأخيرة، فهي وظيفة الديمومة وهذه مستوحاة عندي من آية الدعاء الهائلة في قوله تعالى "وأجعل لي لسان صدق في الآخرين" وهي دعاء نبي الله أن يكون مذكوراً ذكراً حسناً إلى آخر إنسان يبقى على هذه الأرض.

 ووجدت شعراء كثيرين في نهاية الربع قرن ينشدون هذه الوظيفة، وهي أن تكتب الديمومة لخطابهم حين يستلهمون الإمام الحسين رمزاً شعرياً في قصائدهم، وهذا أول ما نلحظه عند الشعراء غير المسلمين الذين كتبوا في الحسين. 

وفي حوار شخصي لي مع عدد من هؤلاء الشعراء كانت هذه الوظيفة هي التي تتبدى من بين ألسنتهم. وأكد غركان على أن هذه الوظائف خاصة فقط بالقصيدة الحسينيّة، لافتاً إلى أن القصيدة الحسينية هي نوع من أنواع الشعر وفرع من فروع القصيدة الإسلامية التي تتفرّع إلى القصيدة النبويَّة والعلويَّة والحسينيَّة والزهرائيَّة. 


الاتجاه القرآني والقصيدة المصنوعة 

ثمَّ مضى المحاضر للحديث عن الاتجاهات تفصيليَّاً، فبدأ بالاتجاه القرآني المعني بالشعراء الذين يكتبون القصيدة الحسينيَّة مستمدين معجمها وصورها وبناءها كله من القرآن الكريم، إذ يجد القارئ للآيات القرآنيَّة كلها تتتابع من المطلع الى نهاية القصيدة، وضرب مثالاً على هذا الاتجاه بقصيدة "الوحي الأخير" للشاعر ناصر ملا حسن من البحرين التي تتكون من 60 بيتاً، وكلها من المطلع الى الختام تصدر عن هذا الاتجاه القرآني وقرأ منها هذا المقطع "آنستَ في الذبح ماءً قد رويتَ به،  موسى، فخرَّ إلى سيناء منصقعا/ وقد رآهُ على الآيات منسكبا/ نوحٌ/ فماج به الطوفان واندفعا/ وصاحب الحوت لما خاض لجته/ فاضت به لجج الأشلاء فابتلعا/ لله درُّك من رأسٍ له لغة/ حمراءُ يعرفها يحيى اذا صرعا".

 وعن الاتجاه الثاني، قال غركان: هو اتجاه القصيدة المصنوعة، وهنا تسكب العبارات، فالمشكلة التي يعانيها كثير ممن يكتبون الشعر، وكثير من الشعراء أنه لا يفرق بين كتابة القصيدة والشعر، فالشاعر غير كاتب الشعر، هناك من يتقن الصنعة فينسج القصيدة على منوال تلك الصنعة. أما الذي يكتب القصيدة ليبث فيها روحاً من لدنه بطراز استثنائي فهذا شاعر، الشعر تكتبه الروح، أما القصيدة المصنوعة فيكتبها العقل، تكتبها الصنعة، وأكثر ما يكتب من الشعر الحسيني هو من هذا الاتجاه. ومثال على هذا الاتجاه هذه الأبيات "سيد للشباب والشهداء/ دمت رمزا وخطوة الاصفياء/ ومثالا وما له من نظير/ أو شبيه في الأرض أو في السماء/ حفظ الدين عن ضياع عظيم/ من طغاة هم أرذل الدخلاء".


الاستعادة الشعريَّة والرؤية

كما تحدث عن الاتجاه الثالث، موضحاً: الثالث هو اتجاه الاستعادة الشعريَّة، لاحظوا الفرق بين القصيدة المصنوعة وقصيدة الاستعادة الشعريَّة، شاعر القصيدة المصنوعة يستدعي الواقع وينظمه حسب قوانين الشعر، ولكن هناك من يستعيد الواقع نفسه، ولكن يكتبه بروحه وسأذكر أنموذجين هما قصيدة مشهورة لجاسم الصحيح ومنها "حين الحسين نوى الصلاة/ وشد أطراف العمامة/ كان العراق هو الأذان/ وكانت الدنيا إقامة/ وتنفسته الكائنات هناك في أعلى غمامة/ والكون يسأل حائراً أهي الصلاة أم القيامة".  

ومن قصيدة أخرى لمحمد البغدادي، قال فيها "عيناكَ تعتصرانِ كلَّ كياني** وتحولان دمي لشيءٍ ثاني/ عيناكَ تَخْتَصِرَانَنِي في دمعةٍ** عقدتْ على اسمكِ يا حسينُ لساني/ موقاهما جفناهما ما فيهما من لوعةٍ ملَّكْتهُنَّ عِناني/ أنا منهما جرحٌ ونزفُ دمائِهِ وهُمَا على آلامِهِ تقفانِ/ من ليلةِ الطفِّ التي خضَّبْتَها حتى وصول دمي إلى شرياني/ عيناكَ تنتظران فجر أمانِ** تغرورقان أسى وتأتلقانِ/ في لحظة الموت الأخيرة والسيوفُ تخطُّ ما أمرتْ على القربانِ/ وبرودة السيف الكليل وهو يمرُّ على مريئِكَ المتشنّجِ العطشان/ وغزارة الدم إذ يفور من الجراح** بكلِّ قسوة ذلك الفورانِ/ اللهُ في عينيكَ كانَ** وأنتَ في عينيهِ فانظرْ أين تجتمعانِ"، وهذا الاتجاه قصائده قلة.

وما زال غركان يتحدث بتفصيل عن الاتجاهات في الشعر الحسيني، بقوله: الاتجاه الآخر هو اتجاه قصيدة الرؤية. وهذا الاتجاه أذهب به إلى القصيدة التي تستدعي الطف استدعاءً رؤيويا خالصا، لا يصل إليه المتلقي إلا بالتواصل مع القصيدة من مطلعها إلى ختامها، لا ينتزع منها مقطعا ويصل إلى شيء، بل يجب أن يقرأ النص كاملا، وهناك شعراء كثر يكتبون بهذه الطريقة، مثلا من السعودية أحمد الماجد ومحمد الماجد، ومن العراق مهدي النهيري وعلي الشويلي، ومن الكويت محمد صالح صرخو، ويقول صرخو في احدى قصائده مثلا على هذا الاتجاه في قصيدة له اسمها "السماء الثامنة": "وانبرى وجه الصبيحة هادراً في خافقيها/ ما بين آخر لحظة شهق المساء على يديها/ والتماع المقلتين بما يخضّب وجه ماضيك السحيق/ الى ثوانيك القريبة يعبر". هذه القصيدة لا تمسك منها شيئا إلا بالبدء من السماء الثامنة الى الخاتمة، لتكتمل الرؤيا ببعدها الحلمي. ومن الشعراء الذين يكتبون بهذا الاتجاه من مصر أحمد حسن محمد، ومن البحرين مثلا أحمد هاشم العلوي وسلمان عبد الحسن.


التناص والبيانيَّة 

وعن اتّجاهي التناص والقصيدة البيانية، قال: أما اتجاه قصيدة التناص، وهذا اتجاه يجاور القرآنيَّة، لكن التناص هنا يمضي إلى قدرة الشاعر على بناء القصيدة ليُحيلك في كل بيتٍ يكتبه إلى بيت أو نص سابق يصدر عن الآخرين في القصيدة كلها، وأذكر مثلا على ذلك الشاعر مرتضى علي شرارة من لبنان، وهو في كل بيت يتناص مع بيت أو نص او مقولة، يقول فيها "لا بدَّ تلقى كل نفس حتفها/ وإلى التراب ترابها سيؤول/ تسعى بيوم ثم يسعى فوقها/ كم حامل وإذا به المحمول/ تطوى حياة ثم ينشر غيرها/ والجيل يفرش فوقه الجيل/ والشمس في وهج الحسين شحيحة/ والبحر في كرم الحسين بخيل".

الاتجاه الآخر هو اتجاه القصيدة البيانيّة، وهذا الاتجاه شعراؤه يكتبون القصيدة امتداداً "للجواهري والشبيبي وجمال الدين" الذي يكتب بهذا الاتجاه يكتب القصيدة البيانيّة، وأقصد بالقصيدة البيانيّة أن يكتب الشاعر القصيدة صادراً في صورها عن أساليب البيان بضوابطها التقليدية المعروفة بالقصيدة العربية، مثلا قصيدة الشاعر فريد النمر عنوانها "عرش الحقيقة كالحسين" ومن الملاحظ أن العنوان ليس شعرياً يقول فيها: "الطف طوفان وروح جنان/ فهل انتميت لطبعه الإنساني/ والطف ركن سادس متفرّد/ في سنة الأحزان والحرمان/ والطف أول فكرة روحيَّة/ تجتاز وحي الذات والإيمان" واتجاه القصيدة البيانيّة شائعٌ جداً. وقبل أشهر قليلة اصدرت كتابا عنوانه القصيدة البيانية وكان الأنموذج الذي طبقته هو شعر مهند مصطفى جمال الدين.

وأكمل غركان محاضرته التي لقيت اصغاءَ واستحسانَ جمهور الثقافة والأدب في كربلاء متحدثاً عن بقية الاتجاهات التي رصدها في القصيدة الحسينيَّة، فضلا عن تطرقه النظري والإجرائي لوظائف القصيدة الحسينيَّة. 

وقبل نهاية الأمسية فتح مديرها الباب واسعاً لمداخلات اشترك فيها كل من: الشاعر والروائي علي لفتة سعيد، والشعراء فاضل عزيز فرمان، وصلاح السيلاوي وقصي الأسدي ونبيل نعمة وظافر السعدي وكريم العرداوي والأستاذ حيان الحسن والشاعرة أمل الخفاجي. وفي ختام الأمسية قدم رئيس اتحاد أدباء كربلاء الشاعر سلام البناي شهادة تقديريَّة للضيف باسم أدباء المحافظة.