ساحة الطيران وجداريَّة السلام تبحثان عن منقذ
يوسف المحمداوي
تصوير: نهاد العزاوي
هل من الممكن أن تهاجرَ الساحات والشوارع والنصبُ والشواخصُ الفنيَّة كما هاجر البشر؟ بالتأكيد ستكون الإجابة مؤلمة بل وساخرة بمرارة، اذا ما ذهبنا مع الممكن في سؤالنا الغريب، والذي يراه البعض ممن رفعهم التغيير من الفاقة صوب الترف غير المعقول من أسئلة التجني على الوضع الذي نعيش، بينما يراه أصحاب التفكير العقلاني والواقعي بالسؤال الذي من الواجب طرحه لاندثار العديد من الأمكنة الساحرة والمهمة وتحولها من لوحات جذب سياحي الى مواقع مهملة بفضل عشوائيَّة الاهتمام وعدم مبالاة أصحاب الشأن بتلك المرافق التي وجدت للراحة والاستمتاع لا للاهمال والضياع.
ساحة الباعة وحافلات النقل
نعم من يرى ساحة الطيران اليوم في وسط منطقة باب الشرقي بالعاصمة بغداد، ويدققُ في ملامح صور أرشيفها في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي سيكون مضطراً للقول بأنَّ ساحة الأمس قد هاجرت مع من هاجروا الى المنافي من أبناء الوطن، فالساحة التي كانت تعدُّ عاصمة وملتقى لشوارع بغداد، وملاذاً للأسر البغداديَّة التي تملأ جارتها حديقة الأمة، وملتقى للسياح الذين تبهرهم جداريَّة فائق حسن ليطوفوا بألوانها وطيورها، أو التمتع برؤية النصب التي كانت تحيطها لقادة انقلاب مايس 1941، وقبلة لأبناء الوطن من الأرمن ليؤدوا صلاتهم في كنيسة الأرمن المجاورة للساحة أو لزيارة موتاهم في مقبرتهم الشهيرة المجاورة للكنيسة، تجدها اليوم وأقصد ساحة الطيران وما فيها من معالم غنيَّة بمحتواها ما هي إلا ساحة عشوائيَّة تستعمرها عربات وبسطيات الباعة المتجولين، ومحال وعربات بيع الملابس المستعملة أو ما تسمى (البالات)، والمصيبة أنَّ أصحاب حافلات النقل الأهليَّة غادروا مرأب النقل الموحد الموجود بالقرب من الساحة واتخذوها مكاناً لتجمع وانطلاق حافلاتهم وعلى مرأى من المسؤولين في دوائر النقل الحكوميَّة.
تاريخ ساحة الطيران
تشير جميع المصادر التأريخيَّة الى أنَّ الساحة وتسميتها جاءت مع تأسيس جمعيَّة الطيران العراقي في العهد الملكي وتحديداً في حزيران من العام 1933، وبتوجيهٍ من وزارة الدفاع لغرض النهوض بواقع الطيران وتطويره، وأصدرت الوزارة تلك الأوامر بعد تخرج مجموعة من الطيارين العراقيين في كليَّة الطيران البريطانيَّة في لندن، وفي بداية التأسيس كما تشير المصادر كان الموقع الرئيس للجمعيَّة يقعُ ضمن بناية وزارة الدفاع الحاليَّة في منطقة باب المعظم، لكنْ مع مرور الوقت استطاع أعضاء الجمعيَّة ومن خلال أنشطتهم ومدّ قنوات التعاون مع جمعياتٍ أخرى وشخصيَّات عسكريَّة بارزة أنْ تجمعَ المبالغ الماديَّة التي مكنتهم من تشييد بنايةٍ خاصةٍ بهم خارج أسوار الوزارة، وبالفعل تمَّ افتتاح بنايتها الجديدة في منطقة الباب الشرقي وتمت تسمية الساحة التي شيدت البناية فيها بساحة الطيران وذلك في الثامن عشر من نيسان عام 1934، أي أنَّ عمرَ الساحة اليوم يبلغ (90) عاماً وهو ما يعادل أعمار دولٍ نالت استقلالها واعترافَ العالم بها في سبعينيات القرن الماضي، ونراها قد سبقت في الرقي والتقدم والازدهار بلاد الحضارة والقوانين، وترانا وللأسف نقولها بمرارة لا يزال البعض منّا يتباهى بالماضي غير مبالٍ بحاضرنا المنهك والخرب في كل شيء.
«ساحة السبعاوي»
ضمن استطلاعٍ صحفي يوضح لنا الإعلامي عبد الجبار العتابي أنَّ «الساحة تتحرر منها بدايات شارع الكفاح الممتدّ شمالاً، وشارع النضال جنوباً، وشارع الشيخ عمر شمال شرقها، ومن جهة الغرب تشكل الساحة امتداداً لساحة التحرير التي ترتبط معها بحديقة الأمة، وهي أقدم من ساحة التحرير».
ويبين العتابي أنَّ «تسمية الساحة تغيرت في العام 1992 حينما أطلقت عليها تسمية (ساحة السبعاوي) بعد أنْ وضعت فيها تماثيل العقداء الأربعة (صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب) ويونس السبعاوي ورشيد الكيلاني (1892 – 1965) وهم قادة انقلاب مايس عام 1941 الذين أعدم خمسة منهم عام 1942 في سجن بغداد المركزي، ولكنْ في العام 2003 تمت سرقة التماثيل وعادت التسمية القديمة على الرغم من أنَّ أحداً لم يتداول تسمية (السبعاوي) وبقيت محافظة على مسماها القديم بحسب قول العتابي.
ما بين الجداريَّة ورواد الساحة
السائر في الساحة ليس باستطاعته أنْ يستمعَ لأغنيةٍ فيروزيَّة في الصباح، أو لتلاوةٍ قرآنيَّةٍ في منتصف النهار تبث من هذا المطعم أو ذاك المحل المتخصص في بيع المواد الغذائيَّة، ولكنْ بمقدوره وبسهولة الإصغاء لصوت الباعة الذين لم يكتفوا بأصواتهم فقاموا باستخدام مكبرات الصوت للإعلان عن بضائعهم المتنوعة المناشئ كالزراعيَّة والصناعيَّة والحيوانيَّة ومنها على سبيل المثال لا الحصر والسخرية: (الحاجة بألف)، (تيشيرتات 3 بخمسة)، (طماطة الزبير)، (رقي سامراء)، (بتيته)، (زيتون الموصل)، (سمج الثرثار)، (صبور البصرة الكيلو بعشرة)، (سماعة موبايل بألف)، (طرشي النجف)، (برتقال، عرموط، تين، عنب)، (تمر خضراوي)، (شحاطتين بخمسة)، (ملابس داخليَّة، جواريب)، (نظارات طبيَّة وشمسيَّة) وتتعدد الأصوات والضجيج واحد، وجداريَّة فائق حسن وسط ذلك الزحام العشوائي مبتسمة بوجوه الجياع لم تخدش مسامعها أصوات الباعة وهم يبحثون عن رزق الله في ساحتها بعد أنْ ضاقت بهم السبل في بلاد النفط والخيرات، بل غازلت وتعاطفت مع أصوات ضمائرهم النقيَّة بعد أنْ دفعوا ضريبة وقفتهم تلك عشرات الشهداء في تلك الساحة التي تعرضت لأكثر من عشرة انفجارات إرهابيَّة راح ضحيتها أكثر من (200) شهيد، طالت عمَّالَ البناء وعربات الباعة المتجولين القادمين من محافظات البلاد للبحث عن أرزاقهم الضائعة في مدنهم عسى أنْ يجدوها في عاصمة البلاد.
نبوءة الشاعر
دماء شهداء التفجيرات، وعرق جبين الباعة، وشظايا المفخخات، وأحلام مخمور توسّد رصيف الساحة، ودموع أمٍ ثكلت بولدها قرب جداريَّة الصمت الملّون، حفظتها عن ظهر قلب ذاكرة حمامة السلام البيضاء في الجداريَّة، ونبوءة الشاعر سعدي يوسف في العام 1973، أي بعد (13) عاماً من افتتاح الجداريَّة وقبل ما يقارب الـ(35) عاماً من التفجيرات الإرهابيَّة التي طالت ساحة الطيران، والتي يقول فيها: «تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها، وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم. تطير الحمامات في ساحة الطيران. تريد جداراً لها ليس تبلغ منه البنادق أو شجراً للهديل القديم بنينا ملاذاً لنا، وغصوناً تنامين فيها ونحن هنا في الرصيف يا بلاد البنادق إنَّ الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه بيتاً وغصناً، ينز دماً أسود، ويهز يداً مثقلة. وقلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوانُ الدمـوع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوانُ الرحيل إلى المدن المقبلة.
ولكننا يا بلاد البنادق كنا صغاراً، فلم نلتفت لإله الجنود، ولم نلتفت للحقائب مثقلة... نحن كنا صغاراً… أقمنا جداراً ونمنا على مضضٍ، وطني، زهرة للقتيل، وأخرى لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار”.
ولا عجب حين يُسأل الشاعر عن قصيدته بعد عقودٍ من كتابتها ونشرها يقول “أعتقد أنَّ النصَّ كان يمثلُ مرحلة متقدمة من مسعاي الشعري، قد أقفُ اليومَ تحت جداريَّة فائق حسن، لأتعلم منها”.
علماً أنَّ الجداريَّة أطلق عليها في البداية اسم “جداريَّة الثورة” لكونها جاءت بتكليفٍ من الزعيم عبد الكريم قاسم للفنان الكبير فائق حسن، لكنْ بعد قصيدة الشاعر سميت بـ”جداريَّة فائق حسن”، ثم “جداريَّة السلام”، وسميت أيضاً “جداريَّة الحمامة البيضاء”.
صانع الإبداع
(64) عاماً هو عمر جداريَّة بروفيسور اللون فائق حسن، كيف حافظت الجداريَّة على ألوانها وما سرّ تجددها على الرغم من الظروف المناخيَّة والأجواء غير الطبيعيَّة التي يعيشها البلد وموقعها الذي عانى الكثير من التفجيرات الإرهابيَّة، والسرُّ في ألقها وتجددها هو فنانها الذي يعدُّ من ضمن أشهر عشرة ملونين في العالم، والذي درسَ على يد عظماء الفن في أوروبا بحكم دراسته في البوزار وهي أشهر مدرسة للفنون الجميلة في العالم وليس في فرنسا فقط، الفنان المولود في بغداد عام 1914، شارك الفنان جواد سليم بتأسيس معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1940، ما ميز هذا الكبير بفنه هو دراسته للأمور التي تخصُّ البيئة والطبيعة والضوء و الظل وتأثيرها في الألوان، وهذا ما جعل الألوانَ عند فائق هي المحور الأساس في أعماله؛ لما له من قدراتٍ تفوقُ التصورَ في توظيفه، ونجد ذلك واضحاً ليس في جداريته فقط، وإنَّما في الكثير من أعماله العالميَّة ومنها على سبيل المثال بورتريه (موديل الطالبة) الذي هو الآن أحد مقتنيات متحف الشارقة العالمي، الجداريَّة التي ارتفاعها عشرة أمتارٍ وبعرض أربعة أمتار استخدم فيها الفنان الكبير الآلاف من قطع السيراميك الملونة، واختارها من المواد التي تقاوم الأجواءَ المناخيَّة والملائمة للطبيعة بعيداً عن المؤثرات الخارجيَّة، ونتيجة لتأثره بالفن العالمي تجدها تنتمي وبما لا يقبل الشك للمدرسة التكعيبيَّة الأوروبيَّة التي أجبرت النقادَ المختصين على الكتابة عنها بعد أنْ صُنفت عالمياً.
حكاية من اللوفر
الجداريَّة التي تمثلُ جميعَ مكونات المجتمع العراقي الباحث عن الحريَّة والسلام، ومازج الفنان فيها بين الشيخ والطفل والمرأة والشاب، والشعر والحمام التي تبحث عن مهربٍ من أقفاصها، تلك التحفة الرائعة التي طالها ويطالها الإهمال منذ عقودٍ وتستجير ولا من مجيرٍ وسط تهميشٍ مقصودٍ من قبل القائمين إدارياً وفنياً على العناية والرعاية لمثل هذه التحف النادرة، وأنا أرى تآكل قاعدتها وتهشم أجزاءٍ منها، والبعض جعل منها مكبَّاً لمخلفاته أو سبورة لذكرياته، تذكرت حينها زياراتي للعديد من الدول وشاهدت مدى حمايتهم لآثارهم التي نجد في بعض سلوكيات الحماية نوعاً من المبالغة بحسب تفكيرنا لكنهم يرونها أموراً طبيعية في سبيل المحافظة على تلك النوادر، وعند زيارتي لمتحف اللوفر وتحديداً إحدى القاعات التي تضمُّ الكثير من آثارنا ومن ضمنها مسلة حمورابي، وأنا أشاهد جموعاً من الزائرين وهم يلتقطون الصور مع مسلة أول قوانين البشريَّة ومن شدة فرحي وزهوي بها لمستها باصبعي ولم أشعر إلا بأفرادٍ من حماية المتحف تحيط بي وتزجرني على ما فعلت، وحين اعتذرت منهم قائلاً: «إنها مسلة جدي ولمستها فقط» فكان ردهم الصارم قولهم «إنها ملك الإنسانيَّة وليست ملكاً لأحد».