محنة الأسطرة وتغليب الهويَّة الوطنيَّة

ثقافة 2024/08/13
...

  رنا صباح

يأخذنا الروائي عواد علي في روايته "توأم البحر" إلى التفكير والاعتراف بعقيدة الانبعاث المتمحورة حول العلاقة المصيرية بين الماضي والحاضر واسطرتها عن طريق المناقشة والافصاح وطرح الاسئلة بين صديقين آمن احدهما برؤيته للملك اشور ناصر بال الثاني بعد عاصفة قوية اجتاحت شاطئ البحر في مدينة ارابخا، وهو الحدث الأهم الذي ادى استثماره بوصفه رمز اسطوري أن يمنح النص الروائي طاقة مساعدة على توفير مستويات للقراءة والتأويل وتنشيط العلاقة بين التنوع الأسطوري/ الديني ليقدما سردا يرتحل عبر استنطاقاته إلى اليومي/ الواقعي، اليومي المكتمل بإحالاته لا بفوتوغرافيته وصورته المنسوخة.  
إن التحكم بالروي بطريقة تؤسس لبنية متكاملة، عليه أن يلمح ويكشف عن العلاقات بين شخوص الرواية وهذا ما فعله الروائي على الرغم من أنه ركز على صياغة النظرة الموضوعية للهوية المسيحيّة وأبعاد ترابطها المكاني وتبلور صياغتها فكرياً وإنسانياً، لكن هذا لا يمنع من أنه صاغ اشتغاله ليضم صديقا مسلما اطلق عليه اسم "مروان" وآخر مسيحيا اسمه "نيموس" مع غلبة واضحة لشخصيات مسيحية مختلفة منها "والديّ نيموس، أسين، ديانا الكلدانية، هيلين، سيرانوش، مارينا"، لأن الرواية محاولة نقل الواقع بروح من التشويق والاختزال وهذا يتطلب نسجا يتوائم والبيئة التي تكتنفها مع الحفاظ على طرح أسئلة الوجود العميقة، ومنها الهويّة بوصفها مفهوما تداوليا يستدعي التوقف عنده من خلال المرويات والسرد، وتعزيز ذلك بتكبير زوايا النظر والمتابعة لما يكتب من أعمال روائية تجسد ذلك التحدي المعرفي، الذي تناول سؤال الهوية بوصفه مرتكزاً أساسياً لفهم المخاطر أو التوجهات المجتمعية المتعلقة بالواقع السياسي، إذن سؤال الهوية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على الحراك الثقافي لذلك لجأ الروائي إلى التاريخ الاسطوري واستعادته عن طريق شخصية "نيموس" الشخصية المحورية في الرواية وهو الذي رأى الملك آشور ناصر بال الثاني وعن طريقه نجح الروي في تمثل الهوية الوطنية العراقية التي لها دلالتها العميقة الموحية فيما جرى من حوار بين مروان طالب الدكتوراه الذي كانت اطروحته "الاختام الاسطوانية والفكر الاجتماعي في العصر الاكدي" ونيموس طالب البكلوريوس الذي ينوي
أخذ الماجستير في الثقافة الآشورية وعن طريق هذه الحوارات تجسدت الكثير من القضايا الشائكة ومنها أن أصل الآثوريين سريان من اتباع الكنيسة النسطورية أو أن الاثوريون ليس هم الآشوريون وأن هناك وجهة ثانية للملوك غير شجاعتهم وتفانيهم في بناء ممالكهم، تلك هي المظهر العنيف المخفي في سطور التاريخ ومنهم الملك آشور،  وغير ذلك من الطقوس العقائدية  التي تشير إلى مظاهر العيش المشترك السلمي وارتباطها بتاريخ البلد، حتى أننا نلمس ثمة تأكيداً للروائي على إبراز الجانب الايجابي الوطني لتلك الشخصية المتمثلة بنيموس بوصفها تمثل شريحة واسعة للمسيحيين العراقيين المحبين لوطنهم والمنتمين إلى ارضه والمتمسكين بعقيدتهم.
ولعل الروائي اسند دور السارد المكتشف والراوي للأحداث لشخصيته الرئيسة التي كانت الوسيط الناقل لرؤية الشخصيات الأخرى من خلال قناعة أو تأييد مباشر منه وهو ينحاز لأبطاله وشخصياته، كي يحركهم بدافع تأكيد إنتمائهم الوطني وخيبتهم أو حزنهم لما يصيب البلد من حالات الفوضى، وحين يكون الروي بضمير المتكلم ويكون الراوي واحدا من الشخصيات الفاعلة فإن المروي سيتصف بالحميمية وإن كان التداخل الاسطوري قد اقحم النص الروائي بأجوائه ذلك أن التفكير بالأسطورة، محاولة لاستعادتها والتحكم بها، ومنحها قوة الحضور الآن - فعالية طقسية. والتفكير بها، أو استعادتها فعلاً - كنص/ طقس يعني تحيين - لها ومنحها زمنية حاضرة، وقطع صلتها مع ماضيها، وتأشير العود الأبدي لها - وبذلك فإن النص الأسطورة يغادر مرحلة الظلمة في الذاكرة (1)، لأنه كان راسباً في العتمة أو العماء الرمزي، والتفكير بالأسطورة وما جاورها من عقائد وطقوس وشعائر، هو سحب للزمن منذ عتباته القديمة، ووضعه في حاضرنا لنضفي عليه ما نريد أن نحاوره ونختلف معه. إن القيمة اليقينية للأسطورة يصار إلى تثنيتها دورياً بواسطة
الطقوس.
ان تذكر الحدث البدئي وتحيينه يساعدان في خلق حكاية متبناة وهي قادرة على تمييز الحقيقي والاحتفاظ به بفضل التكرار المستمر لبادرة نموذجية، وهي هنا متمثلة بمناقشة آليات الحكم في غابر الممالك وما جرى في بواطن سياستها من حروب وانتهاكات للبشر ويتكشف شيء ما يوصف بالثبات والصلابة في الدفق العالي بالتكرار الدوري لما قد جرى في ذلك الزمان. ويستيقن إنسان المجتمعات التقليدية بأن شيئاً ما يوجد على نحو مطلق.
هذا الشيء، شيء مقدس، يفوق الشرط البشري والشرط الدنيوي، لكنه مع ذلك في متناول الخبرة البشرية، يكشف الحجاب عن الحقيقة، ويمكن تشييدها من مستوى "مفارقة" لكن هذه المفارقة قابلة لأن تعاش طقسياً وما تلبث حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ
من الحياة (2) .  
الهوامش
1ـ مظاهر الاسطورة، مارسيا الياد، ت: نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق، 1991.
2 ـ ينظر: الأطراس الاسطورية في الشعر العربي الحديث، ناجح المعموري، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2019.