الفكرُ العربيُّ الجديد: في ضرورة التحديث وحتميَّته

ثقافة 2024/08/15
...

 محمَّدحسين الرفاعي

[I]
أنتساءل عن العلاقة بين نحن والتراث، كما فعل المفكر العربيّ الأصيل محمد عابد الجابري، أم نفكك مفهوم [تراث- الـ - نحن]؟ أنعني بتراث النحن، أساسًا، علاقة النحن بالتراث، وعلاقة التُّراث بالنحن، أم نشير إلى ضروب إمكان العلاقة بين نحن والتراث على نحو جديد؟، إنَّ مفهوم [تراث- النحن]، وفهمه وتفكيكه ونقده، لهو أوَّل الطريق نحو تجديد الفكر العربيّ.

إنَّ إمكان التفهُّم في العالَم- أو إمكان فهم العالَم اِنطلاقًا من الذَّات المجتمعيَّة العربيَّة- والإسلاميَّة، يرتبط بإمكانات الذَّات المجتمعيَّة بعامَّةٍ، في علاقتها المباشرة مع العالَميَّة. ومن جهة أن العالَميَّةَ تتطلَّب في كلِّ مرَّة تعيُّنًا جديدًا، ضمن مضمون نظري- فكري، ومنظور نظري- فكري، جَديدَيْن، فإنَّ العالَميَّة في طور من بناءِ ذاتها، وإعادة بناء ذاتها، مع كل ممارسة فكريَّة، تقوم على أسس المعرفة العِلميَّة والفلسفيَّة الحديثة وما بعد الحديثة. نشير في العالَميَّة إلى وحدة العالَم، ونحدِّدُ في [التعدُّد- في- العالَميَّة] ضروب الاِختلاف الفكري والآيديولوجي، ومن ثمَّ طرق توفير الأرضيَّة الوجوديَّة- والمجتمعيَّة لهما. كما تُفهم المَوضَعَة على أنها تعيينُ موقعنا المعرفيّ في العالَميَّة، وكيف ذلك. ويُنطلق بالتساؤل عن المَفهمة على أنّها كيف يفهم الفكر ذاته، وعلاقاته، والعالَم من حيثُ إنَّه كذلك. حينما نقول العالَم نحن نعيِّنُ ضربًا من العلاقة بالعالَم وفقًا للمضمون النظريّ الذي للعالَم، ووفقًا للمنظور النظريّ الذي له. بعبارة مباشرةً، نحن عالميُّون، ونكون عالميِّين، ونبقى كذلك، وفقًا لما نفهمه من العالَم، ومن ثمَّ نكونه.

[II]
ولكن ما هي الحاجة الملحّة في الدفع بالتمييز بين المفاهيم إلى أقصى إمكانه، وقوته، وقدرته؟، لأنَّ التحديد. لا يمكن أن نبدأ بفهم المعارك حول الحقيقة من دون تحديد المفاهيم التي يمكن أن تُوظَّفَ في فهم الحقيقة، ومن ثمَّ اِستخدامها على نحو فكري وعملي. إنَّ أوَّلِيَّة التحديد تشير إلى التمييز، وضرورته، بين المفاهيم القَبليَّة، والمفهومات البَعدِيَّة، على أنها موضوعات علوم الفهم؛ الفهم بالحريَّة العِلميَّة والفلسفيَّة الصارمة والجذريَّة؛ أي المسؤولة. وهذه الأخيرة من حيثُ أنَّها رافعةُ التمييز.
إنَّ [هُويَّة- العالَم] من حيثُ أنَّها كذلك، ليس مطروحًا عليها أن تشتبك مع [تراث- الذَّات]، التُّراث بعامَّةٍ، والذَّات في المعنى العامّ الذي من شأنها، في كل مكان وزمان؛ بل هي لا تكون هُويَّةَ العالَم إذا هي لم تكن تستطيع أن توفِّر أرضيَّة الفهم التي من شأن تراث الذَّات؛ ولا تتضمَّنه، وأبعد من ذلك فإنَّ [تراث- العالَم] لا يستمد معناه ولا يتوفَّر على مضمونه من دون تراث الذَّات، والذَّوات المجتمعيَّة والثقافيَّة والإنسانيَّة بعامَّةٍ. ما يُفهم من العالَميَّة على أنَّها في علاقة عداء مع التُّراث الديني، أو القومي، أو العرقي، أو الطائفي، لدين أو لقوم أو لعرق أو طائفة، هو في الحقيقة فهمٌ يحجب حقيقة العالَم، عَبرَ القفز على هُويَّة العالَم. ولا ثَمَّةَ طريقَ أسهل في هذا السَّبيل أكثر من الإيهام، والتجهيل، وصيرورات بنائهما في مؤسسات ما قَبلَ المجتمع، فوق الدولة.

[III]
ولكن ماذا يتضمَّنُ العالَم وقد صار إمكانًا للتعدد في العالَم؟، وبأيّة معانٍ يمكن أن نفهم العلاقة مع العالَم على أنّها، ضمن ضروب الوعي بالهوية والذَّات، علاقة تكامليَّة، أو لا تكون؟.
في الحقيقة، يقوم هذا التَّساؤل من أجل تفحُّص وإعادة الكشف عن مُكَوِّنات وعناصر مفهوميَّة تقدمها جملة تصوُّرات واِفتراضات قَبليَّة في العلاقة مع العالَم، في الفكر العربيّ، منذ بداية القرن العشرين، إلى الآن. وهي الاِفتراضات والتصورات الآتية:
-I الاِفتراض القَبْليِّ الأول: ضرورة تخصيص الحداثة تقوم على تعدُّد الثقافات والمجتمعات. تنضوي عمليات تخصيص الحداثة تحت سقف فهم الحداثة على أنّها وَحدة نظريَّة ومنهجيَّة واحدة يُراد منها أن تُرغِم المجتمعات والثقافات على أن تكون على صورتها، وهيئتها، ومضمونها، ومنظورها. تفهم عمليات تخصيص الحداثة، والحال هذي، العالَم وفق نظريَّة تقسيم العالم إلى عوالم مختلفة جذريَّاً، وتعي المجتمعات فيها على نحو الفصل والاِنفصال الثقافي والحضاري، ضمن إطار فهم تطوُّري آيديولوجي، على أنَّه متطور أو متخلّف. وفي هذا السياق، بوعي أو من دون وعي أصحابها، هي تمارس شتى أنواع التخصيص والخصخَصة في المعرفة، وحقولها، فتارةً تدعو إلى حداثة خاصَّة بالمجتمعات العربيَّة والثقافات العربيَّة والعلوم العربيَّة، وتارةً أخرى تدعو لاِستنساخ الأنموذج العلميّ والقانوني والحقوقي والاِقتصادي والسياسي الغربي كما هو. في هذه الدعوة، تكمن المعايير الآيديولوجية التي تصنّف العوالم، وتفتح كل الإمكانات أمام حكم معياري واحد: القبول، أو الرفض؛ لا غير.

[IV]
-II الاِفتراض القَبْليِّ الثَّاني: عولمةُ العالَمِ إنَّما هي صيرورةٌ تاريخيَّةٌ مجتمعيَّة تعود إلى فكرة العالَميَّة على أنّها تصوُّرات المجتمع والثقافة في فهم العالَم. وذلك يعني أن عولمة العالم ترتبط على نحو جذري بصورة من العالَميَّة أصبحت الصورة الأكثر اِنتشارًا وسلطةً وقوة في تحديد حدود العالَم، على نحو نظري وعملي. ومن جهة أن العالَم، من حيثُ أنَّه عالَم في كلِّ مرَّةٍ، فإنَّهُ لا يُفهم إلّا عَبرَ العنصر البنيوي- التكويني الأصليّ الذي من شأنه، أي العالَميَّة. فأنْ نقول العالَم معناه أن نتصوَّر ذاتَ أنفسنا العميقة اِنطلاقًا من الصورة الذهنيَّة التي أخذت تحدِّدُ كل الصور الممكنة عن الإنسان، والمجتمع، والوجود، والكينونة؛ بلوغًا إلى مستوى [الوجود- في- العالَم]. إنَّ عولمة العالم تعني ببساطة اِنقلابًا- بدءًا من اِكتشاف العالَم عَبرَ ثورات الاِقتصاد والسياسة والثقافة في عصر الحداثة- في فلسفة فهم الذَّات، والهُويَّة اللتين من شأن مجتمع بعينه وإنسانٍ محدَّدٍ فيه. أن نفهم المجتمع اِنطلاقًا من العولمة بوصفها صيرورة جعل العالَم واحدًا هو ببساطة يعني أن كل فهم من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، داخل المجتمع والبنى المجتمعيَّة (ثقافة- اِقتصاد- سياسة) لا يقوم من دون الاِنطلاق من العالَميَّة وقد أصبحت أرضيَّة كل ضروب التفلسف في فلسفة الكائن، والكينونة؛ ومن ثم العلم بالإنسان والمجتمع.
-III الاِفتراض القَبْليِّ الثَّالث: تعميمُ الحداثة يتعيَّنُ على مفهوم التعميم العلميّ. لا معرفةَ علميَّة من دون التعميم؛ وهذا، خلافًا لما يُتصوَّر، إنَّما هو شرطُ إمكانٍ أصليّ في المعرفة العِلميَّة والفلسفيَّة الحديثة. نسمع، في المعرفة العادية، صيغ وجمل من نوع: "لا تعمِّم" أو "لا يجوز التعميم"، أو "العلم لا يعمِّم" أو "كل علم هو وجهة نظر لا يمكنها التعميم" أو "التعميم غير ممكن"... إلخ. إنَّ معرفةً لا تتوفَّر على إمكان التعميم، بعد بناء محطات مَنْهَجيَّة في فهم موضوعها، على نحو عقلانيّ - وتجريبي، ضمن أطر الحداثة والتحديث، هي تقع قَبلَ وعي الاِستقراء والاِستنباط الحديثين. وهي، في أفضل الأحوال، تقع داخل المعرفة العادية- اليوميَّة ولا تتجاوز حدودها. إنَّ التعميم لهو شرط أصليّ من شروط المعرفة العِلميَّة والفلسفيَّة الحديثة وما بعد الحديثة. لكن أي تعميم، وكيف؟ إنَّه التعميم في كلِّ مرة. وعلى هذا الأساس، تعني عمليَّة تعميم الحداثة، من جهة كونها حقول وجوديَّة للإنسان في المجتمع، وللانوجاد في العالَم الذي من شأن الذَّات الفاعلة مجتمعيَّاً، تعني أخذ المجتمعات في العالَم من جهة كونها تتوفَّر على إمكان تحديثها وفقًا لأنموذج العالَميَّة. إنَّ التوفُّر على إمكان التحديث يختلف، أشدَّ الاِختلاف، عن فرض التحديث أو أدلجة التحديث.

[V]
-IV الاِفتراض القَبْليِّ الرَّابع: أدلجة الحداثة. تتضمَّنُ عمليَّة الأدلجةِ تحويلَ الحداثة من كونها صيرورة مجتمعيَّة وتاريخيَّة- ضمن الثقافة المجتمعيَّة، واِقتصاد الدولة، والسياسة في المجتمع العالَمي اِنطلاقًا من الشرعيَّة المجتمعيَّة للسلطة والمشروعيَّة القانونيَّة التي لها، شرعيَّة مجتمعيَّة تولد من المشاركة السياسيَّة الحرة والنزيهة، والمشروعيَّة القانونيَّة التي يُتوفَّر عليها بالعودة إلى علاقة الدولة مع العالَم على نحو السوق العالَميَّة والسياسات الاِقتصادية للدولة- تحويل الحداثة إلى كونها خيارًا واِختيارًا فكريًّا لنخبة من المفكرين أو الفلاسفة أو الباحثين أو العلماء. ولا تقف أدلجة الحداثة في إطار رفضها ودحضها فحسبُ؛ ولا في قبولها والدعوة التبشيريَّة بها، بل تنسحب إلى مستوى رفع الشعار بفرضها من قِبَلِ الدولة على المجتمع، أو العكس رفع الشعار برفضها. نظرة خاطفة على نتاج الفكر العربيّ، الحداثي العقلانيّ منه، والتراثي الروحي أيضًا، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي، تكشف عن ذلك بسهولة.

[VI]
ما يجب أن نفهمه في هذا السياق، واِنطلاقًا من إمكانات مادية- بشرية هائلة، وفكرية- معرفية واعدة، في المجتمعات العربيَّة، بدءًا من الموارد الطبيعية والبشرية، مرورًا بمحاولات جعل العلاقة مع التُّراث علاقةً عقلانية- إنسانية، وصولًا إلى أعمال أصليَّة لباحثين ومفكرين وعلماء وفلاسفة عرب، هو أن إمكان التحديث والتجديد في الفكر العربيّ أصيل فينا، وأصليٌّ في علاقتنا بالعالَم. هو ذا الفكر العربيّ الجديد. إذن، نفهم نحن والتراث أم تراث النحن؟ إنَّه فهم تراث النحن من جديد.