الشواكة.. محلةُ السياسة والاقتصاد

ريبورتاج 2024/08/18
...

  بشير خزعل

 تصوير: نهاد العزاوي

تلك المحلة الموغلة في القدم بشناشيلها وبيوتاتها، وتنوع أهلها من طوائف المسلمين والنصارى والصابئة واليهود، لم تبق على حالها، فنسائم (حلفة الشوك) التي كانت تزين شبابيك بيوتها اختفت، وشناشيلها خربت، لم تعد نساء المحلة تجلس على دكات البيوت لتحكي عن قصص العشق وكرامات الأولياء الصالحين، وشيوخها ووجهاء المحلة هجروا مجالسها ومقاهيها، درابين المحلة تغيرت معالمها، محلة التجارة والسياسة والثقافة، لم يبق منها سوى اسمها الذي لا يشبه معالم وجهها، بعد أن غابت عنه ضحكات أهلها ممن هجروها منذ عشرات السنين.


لوحة بغدادية سكنت ضفاف دجلة منذ مئات السنين، جذورها تمتد حتى العصر العباسي، اكتسبت اسمها في بدايات القرن الماضي من (الدرابة) وهم باعة الشوك ممن كانوا يطوفون أزقة المحلة لبيعه كوقود لمخابز البيوت، فسميت بمحلة الشواكة.


بيت صوفة والشوك

في القرن التاسع عشر الميلادي اشترت عائلة تسمى (بيت صوفة) جميع كميات الشوك التي كان يبيعها (الدرابة)، وهم أشخاص يجولون بين أزقة المحلة بعرباتهم  لبيع الشوك كحطب لمخابز البيوت، واستحوذ (بيت صوفة) على بيع (الشوك) لأبناء المحلة والمناطق المجاورة، فتغير اسم العائلة إلى (بيت الشواكة) نسبة إلى المهنة التي امتهنوها في بيع جذور الأشجار والشوك لمطابخ ومخابز البيوت التي كانت تستخدمه كوقود، ثم تحول استخدام الشوك لتبريد الهواء في فصل الصيف بعد أن يتم شده بأضلاع من القصب والحبال، ويرش بالماء ويضعونه على الشبابيك. 


أعمال وحرف

امتهن أهل المحلة صيد الأسماك وصناعة (البلم) وسلال (الخوص) التي تتم صناعتها من سعف النخيل، بسبب وقوع المحلة على (الشط) كما يسمون نهر دجلة آنذاك، وأيضاً انتشرت مهنة صنع شباك الصيد والنقش على الخشب وتجارة الأجبان والحنطة والشعير، فالمحلة كانت تعيش اكتفاء ذاتياً، وتبيع ما يزيد عن حاجتها إلى المحلات والمدن المجاورة.


إرث

السيد رزوقي الجنابي (65 عاماً) من سكنة محلة الشواكة تحدث عن تاريخ المحلة، قائلاً: محلة الشواكة تقع على الجانب الغربي من شاطئ دجلة وتجاورها محلة الكريمات وباب السيف والصالحية والعلاوي، فمطاعم (الباجة) و(الكباب) كان يزدحم بها الشارع الرئيس في المحلة حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي إلى ساعات متأخرة من الليل، وفي منتصف الثلاثينيات تم بناء السفارة البريطانية في المحلة، وبنيت حولها العديد من بيوت الساسة والتجار ومنها بيت المرحوم (توفيق السويدي) رئيس وزراء العراق في العهد الملكي، الذي ما زال شاخصاً حتى الساعة، وكذلك دار الطبيب (سندرسن) الذي كان الطبيب الخاص للعائلة المالكة، أما سوق الشواكة فهو لا يزال من أهم أسواق بغداد في جانب الكرخ منذ أكثر من 50 عاماً، وفي بداية خمسينيات القرن الماضي كانت الشواكة من أهم مداخل بغداد للقادمين إليها من محافظات وسط العراق وغربه، ففيها كانت أشهر ثلاث عيادات للأطباء أمثال (عيادة الطبيب توفيق محمد، وشاكر السويدي، والطبيب صبري حداد، وحنو جلود، وفهمي الاطرقجي) وكانت (للشواكة) حصتها من الأسماء اللامعة في عالم الأدب والفن ممن عاشوا لفترات طويلة في المحلة أمثال الشاعر (الملاعبود الكرخي، وعبد الأمير الناهض). 


حرف

يقول سرحان رشك (70 عاماً) صاحب محل لصنع شباك الصيد: مارست محلة الشواكة حرفاً ومهناً محددة منذ بداية أربعينيات القرن الماضي بسبب قربها من شاطئ دجلة، فقد اشتهرت بعض الأسر في محلة الشواكة بمهن محددة، كبيت مرزوق البناء الذي كان مختصاً في بناء البيوت بطرازها البغدادي الخاص، وهناك أيضاً بيت النجار، نسبة إلى الأسطة حسن النجار الذي يصمم شناشيل البيوت ويبنيها من الخشب، ثم تحول بعض أسطوات النجارة إلى صناعة الزوارق الصغيرة الخاصة بصيد الأسماك، واستمروا بهذه المهنة إلى يومنا الحالي، وفي السابق كان يوجد أسطوات متخصصون بصنع (الدوب) التي تنقل المنتجات الزراعية والحيوانية بمختلف أنواعها من مدن سامراء وبيجي ومحافظات الوسط والجنوب، فمن أهم مراسي نهر دجلة في ذلك الوقت هي شريعة الشواكة التي تكتظ بالبائعين وتجار الحنطة والشعير والسمن والرز، كما أن "الدوب" الكبيرة كانت تقوم بنقل بعض الدواب كالماعز والأغنام  لبيعها للجزارين أو مربي الاغنام.


محلة سياسيَّة                                                       

ولأهميتها من الناحية الجغرافية في مدينة بغداد، كانت المحلة مركزاً تجارياً مهماً، جذب إليه التجار والساسة من مناطق عراقية مختلفة، حتى أن العراقيين من القومية الكردية والديانة اليهودية كانوا من التجار البارزين في سوق المحلة في أربعينيات القرن الماضي، كما كانت محلة الشواكة تحتوي على مراكز سياسية مهمة، كمدرسة الملك فيصل والسفارة البريطانية وبيت رئيس الوزراء نوري السعيد، الباحث في تاريخ المحلات البغدادية، فاضل حسن البنا قال: إن محلة الشواكة من المناطق البغدادية المهمة، فهي كانت مسرحاً لمداولات الحكومة وأعمالها من خلال وجود بيت رئيس الوزراء نوري السعيد، ومن ثم توفيق السويدي والسفارة البريطانية وبيوت الوزراء ووجهاء البلد، وخلال سنوات الحرب العالمية اتخذت الحكومة البريطانية من إحدى البنايات القريبة من منطقة الصالحية مركزاً للعلاقات العامة، كان يتولى بمختلف الوسائل، نشر الدعاية لجيوش الحلفاء في الانتصار على النازية، ومنها عرض الأفلام السينمائية على البناية، حتى أغلقت بعد الحرب، وأصبحت ملهى ثم فندقاً باسم "ليلة وليلة"، ولم تكن المحلة مغلقة على نفسها، بل كانت تحتوي على أطياف وقوميات متنوعة، والفوارق الاجتماعية لم تكن بمستوى متعالٍ، بل كانت في جانب كبير منها إنسانية وتعاطفية، والكثير من موظفي البلاط الملكي والوزارات كانوا من أسر فقيرة أو متوسطة من أبناء المحلة.

وأضاف البنا: اشتهرت المحلة بعيادات الأطباء والصيادلة التي كان عددها محدوداً، ولا يتجاوز الثلاث عيادات طبية وصيدليتين، كما كانت توجد في المحلة أكثر من 6 خانات كبيرة، يستخدمها التجار في تداول البضائع والمشتريات مع المدن والمحافظات العراقية الأخرى.  


شواخص ونفوذ 

الباحث في مجال التراث البغدادي ابراهيم القره غولي بيّن: أن محلة الشواكة هي الأكثر نفوذاً وشهرة، وقد استحوذت على أجزاء من مناطق أخرى قريبة منها، فمحلة الشواكة هي في الأصل محلة القرية الغربية التي كانت تضم محلة الكريمات وباب السيف والشواكة ومحلات أخرى من منطقة علاوي الحلة، بدءاً من شارع حيفا الحالي باتجاه الصالحية، وكانت تلاصقها محلة الدوريين ورأس الجسر، إذ يوجد في محلة (القرية) أو الشواكة موضع على نهر دجلة يعرف بقصر المأمون، وأيضاً يوجد مسجد (السيف) الذي أعاد ترميمه الوالي العثماني داوود باشا، وفي هذا المسجد يوجد قبر الإمام (أبي الحسن الأشعري)، لكن الروايات تختلف في صحة عائدية القبر للأشعري، ويجاور المسجد حمام الجسر ومقهى البيروتي، لكن هذه الشواخص تم هدمها في زمن حكومة عبد السلام عارف في العام 1964، وبنيت محلها مديرية التقاعد العامة التي ما زالت موجودة الآن. ولم تكن بغداد في ذلك الوقت مصممة عمرانياً بشكل يحدد مساحات المحلات وحدودها بشكل دقيق، وقبل الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 لم يكن في بغداد إلا جسر واحد، هو الجسر القديم الذي يقوم على جنائب دوب، فأقام الإنكليز جسراً جديداً يقوم على جنائب أحدث، وكان أفضل من الجسر السابق، وفتحوا الشارع في أرض الصالحية، وقد حل محل الجسر القديم جسر حديدي ما زال قائماً، يعرف اليوم باسم جسر الشهداء، وحل جسر حديدي آخر هو جسر الأحرار محل جسر مود الذي سمي نسبة للجنرال الإنكليزي (ستانلي مود) الذي دخل إلى بغداد في 11 آذار سنة 1917، وكان له تمثال يقع على مقربة من باب السفارة البريطانية الرئيس، وأقيم فيما بعد تمثال للملك فيصل الأول في الساحة القائمة عند ملتقى شارع الصالحية بشارع الملك الذي يبدأ من مبنى الإذاعة وشارع صلاح الدين المتجه نحو الشواكة، وقد أطلق على تلك الساحة فيما بعد اسم جمال عبد الناصر.