سيبويه في بغداد

ثقافة 2024/08/21
...

أ.د ضياء خضير

لا يوجد لدينا تاريخ دقيق لوصول سيبويه إلى بغداد ومناظرته لنحاتها وفي مقدمتهم رأس المدرسة الكوفية أبو حمزة الكسائي المتوفى عام 183 هـ، ولكن في أغلب الظن أن ذلك قد حدث في نفس العام الذي مات فيه سيبويه إثر تلك المناظرة الشهيرة كمدا وغما، بعد رجوعه إلى بلدته البيضاء القريبة من مدينة شيراز الإيرانية، وهو العام 180 للهجرة الثابت لدى أغلب المؤرخين. وربما حدث ذلك قبل هذا التاريخ بقليل.

وذلك يعني أن عاصمة الخلافة لم تقطع من تاريخها الطويل، آنئذ، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي عام 145هـ، حتى وصول سيبويه إليها زمنَ الخليفة هارون الرشيد، أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد. وهي فترة ليست كبيرة في عمر الزمن وتأسيس المدن، ولكنها كانت كافية لأن تتبوأ بغداد مكانة مركزية في علمها وثقافتها، فضلا عن مكانتها السياسية كعاصمة للخلافة الإسلامية؛ باعتبار أن الازدهار الثقافي والفكري الذي شهدته بغداد زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد قد سبق تأسيسها المادي أي بناءها وتوسعها العمراني. فعلماء البصرة والكوفة في اللغة والشعر والحديث والفقة والفلسفة والمذاهب المختلفة هم الذين سدوا هذا الفراغ وملأوا الساحة البغدادية بضجيجهم ونزاعاتهم أول الأمر، قبل أن يتاح لبغداد أن تتفرد بشخصيتها وعلمها في الشعر والأدب والنحو والفلسفة وفروع المعرفة الأخرى.
ونحن لا نعرف، في الواقع، سببا يدعو سيبويه لترك مدينته البصرة والصعود إلى بغداد، غير ما ذكره بعض المؤرخين والأدباء مثل صاحب نفح الطيب الذي قال:
(وأما سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، فلِما كان عليه من تمكّن الحال والقرب من السلطان، وعلو همته وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه، لأنه كان أعلم أهل زمانه).
ولعل هناك سببا آخر لوجود سيبويه في بغداد لم أجد أحدا من المؤرخين تطرق إليه، هو الظروف المضطربة التي كانت مدينته البصرة قد مرت بها آنئذ، على إثر الحملة التي جردها الخليفة العباسي هارون الرشيد عام 179هـ بقيادة عيسى بن جعفر بن سليمان بن علي لإخضاع عمان للحكم العباسي وإسقاط الحكم الإباضي الوليد فيها. إذ إن هذه الحملة التي تألفت من خمسة آلاف رجل وألف فارس قد أساءت، وهي في طريقها إلى عمان، التصرف بمدينة البصرة ( إذ خرج بأهل البصرة فجعلوا يفجرون بالنساء في طريقهم ويسلبونهم، فبلغ أهل عمان ذلك فحاربوا عيسى ومنعوه من دخول بلدهم فظفروا به وصلبوه وامتنعوا على السلطات فلم يعطوا طاعة)، كما جاء عند المؤرخ العماني (ابن حبيب المحبر، ص488، وعند البلاذري ج1، ص 93، وانظر بهذا الصدد، فاروق عمر فوزي، الموجز في تاريخ عمان السياسي، الأردن ص48).
إن ذلك مجرد افتراض نفترضه وسبب إضافي يمكن أن يضاف للأسباب التي دفعت سيبويه للخروج من البصرة، ولعل هذا أن يفسر لنا أيضا السبب في عدم رجوع سيبويه إليها، وذهابه إلى بلدته البيضاء لدى عودته الحزينة من تلك المناظرة الغريبة، كما تقدم.
وصاحب النص السابق (المقري التلمساني) يضيف إلى ذلك ما يلي:
( وكان بينه [سيبويه] وبين البرامكة أقوى سبب فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه) .
غير أن هذا السبب الخاص بالعلاقة مع البرامكة الفرس مثل سيبويه، لا يجعل هذا الأخير متميزا عن قرينه الكسائي ذي الأصول الفارسية هو الآخر. فإذا أضفنا إلى ذلك الهوى السياسي الذي كان ميل الدولة العباسية فيه إلى المدرسة النحوية العربية الكوفية التي يتزعمها الكسائي نفسه، ضدا على المدرسة النحوية البصرية مدرسة أهل الرأي والقياس، أدركنا الكيفية التي وقع فيها إمام النحو وزعيم مدرسة البصريين دون منازع ضحية لهذا الواقع الذي اختلط فيه العلم بالسياسة على هذا النحو الذي لا شك فيه ولا برء منه. بل إننا لنشعر أن وزير الرشيد يحيى بن خالد البرمكي الذي أشرف على المناظرة وعرف نتيجتها قد وقع، هو الآخر، في الارتباك والحيرة بعد هزيمة سيبويه المزعومة في المسألة الزنبورية بعد موافقة العرب الموجودين قريبا من المتناظرين لرأي الكسائي. فقد كان من الصعب على وزير الرشيد الشهير أن يرى صاحبه الفارسي الذي قصده من البصرة، أن يراه منكسرا مهزوما، مع أنه (أي يحيى بن خالد البرمكي) كان يريد انتصار الكسائي لأنه يمثل الاتجاه الرسمي للدولة التي يعمل البرامكة وزراء وموظفين كبارا فيها. وما قاله خالد البرمكي بعد أن رأى الاختلاف بين الرجلين ( قد اختلفتما وأنتما رأسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟)، أقول إن ما قاله هنا تمليه، فيما نظن، دواعي المجاملة والضيافة أكثر من أي شيء آخر. ولذلك نراه يسارع إلى إكرام سيبويه وتطييب خاطره استجابة لوساطة خصمه الكسائي، كما قيل في حينها.
ورغم أننا لا نريد أن نخوض في تفاصيل هذه المناظرة ولا الرأي الراجح في العبارة الخاصة بـ (المسألة الزنبورية) التي تقول: (كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها)، والتي أثبت جمهور علماء النحو صواب رأي سيبويه فيها، فإن ما يهمنا بيانه في هذه الكلمة هو الجو الفكري السائد حينئذ في بغداد بشكل خاص، والعراق بمصريه الثقافيين الكبيرين البصرة والكوفة، بشكل عام، وطبيعة الصراع الفكري والعقائدي الذي كانت الخلافات النحوية واللغوية ذات الطابع الجزئي مجرد وجه من وجوهه وصورة مجتزأة من صوره.
نعم إن الأمر كان يتصل بما هو أكبر من ذلك، وهو عملية التأسيس الكبرى للثقافة العربية التي كان القرن الثاني الهجري (قرن سيبويه وأستاذه الخليل بن أحمد) عصر تدوينها وتثبيت علومها. ولذلك لم تكن مجالس المناظرات والمسامرات في قصور الخلفاء والوزراء والأمراء، أو في الدور الخاصة والمساجد، مجالس من أجل الترفيه والإمتاع والمؤانسة، إنها وإن كانت كذلك في الظاهر، فلقد كانت في واقع الأمر إعادة متكررة لكتابة التاريخ، وبكيفية خاصة تاريخ العصر الجاهلي وصدر الإسلام، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي، ط4 ،بيروت 1984، ص 60).
ولقد كانت مساهمة سيبويه في هذا التأسيس بالغة الأهمية في الفكر العربي كله وليس في النحو العربي وقواعد اللغة وحدهما. فـ(الكتاب) ينطوي، كما هو معروف، على كثير من الأسس المنطقية والفكرية التي أثّرت في العقلية العربية وأعادت صياغة رؤية قواعد لغتها على نحو جديد وغير معروف في التقاليد اللغوية والنحوية العربية الخالصة. وكان التناقض والخلاف الذي ذرّ قرنه بين المدرستين البصرية والكوفية يستند، في جوهره، إلى هذه الحقيقة التي دخل فيها على اللغة عند البصريين وزعيمهم سيبويه عنصر أو عناصر غريبة عنها لم تعرفها بهذا الشكل تقاليد المدرسة الكوفية ذات الطابع العربي الخالص. لقد دخل المنطق ذو الطبيعة الرياضية على بعض أساليب هذه اللغة وتأثر النحويون بأساليب الفقهاء في التوجيه والنظر، فأدخل ذلك الضيم عليها وأبعد بعض متكلميها عن الفطرة والبساطة التي كانوا عليها. وكان من نتائج ذلك أن نسمع من بعض الأعراب، وهو يستمع إلى مناقشات بعض النحويين، هذا التعليق الطريف: ( إنكم تتكلمون في كلامنا بكلام ليس من كلامنا!).
نعم، لقد كانت المشكلة موجودة في مثل هذا (الكلام الذي ليس من كلامنا) يقال في مجلس الأخفش، بسبب تداخله مع علوم أخرى قد تندّ عن الاستخدام السليم للغة وتخرج عن طبيعتها. وفي مقدمة هذه العلوم المنطق والفقه، كما ذكرنا. وحين وضع أبو البركات الأنباري مصنفه المعروف بـ (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) ذكر في خطبة الكتاب ما يلي :
(إن جماعة من الفقهاء والمتأدبين، والأدباء المتفقهين، المشتغلين عليّ بعلم العربية، بالمدرسة النظامية.. سألوني أن ألخص لهم كتابا لطيفا يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة ).
(أبو البركات الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، ج1،بيروت 1998، ص15).
فالمسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة في بعض الأحكام الفقهية لم تكن بمعزل عن المسائل الخلافية القائمة بين البصريين والكوفيين في علم مختلف في طبيعته وغرضه، وهو علم النحو. والمناظرة التي جرت ببغداد في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري بين النحوي البغدادي أبي سعيد السيرافي شارح كتاب سيبويه، ويونس بن متى القنائي الذي انتهت إليه رئاسة المنطقيين في بغداد حول المنطق أو نحو اللغة اليونانية، والنحو أو منطق اللغة العربية، على حد تعبير السيرافي، هذه المناظرة التي أورد أبو حيان التوحيدي شيئا منها في ( المقابسات ) و( الإمتاع والمؤانسة ) تشير هي الأخرى إلى هذا التداخل بين النحو الذي أصبح (علما)، وعلم المنطق الذي تداخل مع مسائل الفقه مثلما تداخل مع النحو. و( الرسالة ) التي وضعها الإمام محمد بن إدريس الشافعي معاصر الخليل وسيبويه، والمتوفى عام 204هـ في الفقه ووضع لها (أل التعريف) مثل (الكتاب) كانت تشير، هي الأخرى، إلى هذا الاقتران والتداخل والمقابسة بين كتب النحو من جهة، وكتب الفقه من جهة أخرى.
لقد بدأ سيبويه حياته العلمية في البصرة بدراسة الفقه والحديث على يد شيخه المحدّث البصري حماد بن سلمة الذي كانت حادثة لحن سيبويه معه قد دفعت هذا الأخير لكسر قلمه واتخاذ قراره الشهير بأن (لا يكتب شيئا حتى يحكم العربية). وهو القرار الذي دفع سيبويه لملازمة كبار علماء اللغة والنحو في عصره مثل يونس بن حبيب، وهارون بن موسى، وأبي زيد الأنصاري، وأبي الخطاب الأخفش، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، بالإضافة إلى أستاذه الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كان سيبويه بالنسبة إليه (الزائر الذي لا يمل).
غير أن علاقة سيبويه وكتابه بالفقه لم تنقطع وظهر تأثيرها واضحا إلى الحد الذي دفع الفقيه المحدّث أبا عمر الجرمي إلى القول بأنه كان يفتي الناس ثلاثين سنة من كتاب سيبويه. ذلك لأن كتاب سيبويه (يُتعلم منه النظر والتفتيش) كما كان هؤلاء الفقهاء يقولون.
وحين دخل سيبويه بغداد الرشيد عام 180هـ كان كتابه الكبير في النحو قد طار صيته في الآفاق وصار صاحبه زعيم المدرسة البصرية دون منازع بعد وفاة أستاذه الخليل عام 175هـ. بل إن مناظري سيبويه الرئيسين في بغداد ونعني بهما الكسائي والفراء قد قرأ كتاب سيبويه وتتلمذا عليه وعرفا قيمته.
أما بغداد نفسها فقد كانت تعيش زمن الرشيد نهضة ثقافية وعلمية منقطعة النظير على مستوى حركة التصنيف في الآداب المختلفة، وتنظيم العلوم، والترجمة من اللغات الأجنبية. وكان مؤسس بغداد الخليفة أبو جعفر المنصور قد اهتمّ ببناء المدينة الثقافي والعلمي، وليس ببنائها العمراني فقط. فاستدعى النقلة والمترجمين لنقل الكتب اليونانية الخاصة بالطب والهندسة والحساب والفلك . وقد أرسلت هذه الكتب من قبل إمبراطور الروم بطلب من الخليفة العباسي نفسه، وأصبحت نواة لبيت الحكمة الذي توسع في عهد الرشيد وابنه المأمون وأصبح بمثابة جامعة ومركز للبحث، ومرصد للنجوم، والترجمة التي قام بها جمع كبير من العلماء الذين يعرفون اليونانية والسريانية، وغيرهما من اللغات الأجنبية.
وبالإضافة إلى الشعر والأدب اللذين شهدا في عهد الرشيد تنوعا وتجديدا لم تعرفهما العهود العربية السابقة. كان هذا العصر قد شهد ميلاد علوم أخرى مثل علم التفسير الذي استقل وانفصل عن علم الحديث، وظهور المذاهب الفقهية التي مثلها الإمام جعفر الصادق المتوفى  في المدينة عام 148 هجرية، وأبو حنيفة المتوفى 150 للهجرة، ومالك بن أنس المتوفى في 179 هـ، والشافعي المتوفى في 204هـ، وأحمد بن حنبل المتوفى 241هـ. وكانت المدرستان الفقهيتان الكبيرتان : مدرسة أهل الرأي في العراق، ومدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة، تقابلان المدرستين النحويتين الكبيرتين في البصرة والكوفة. فقد عاش في هذا العصر، بالإضافة إلى الخليل وسيبويه، كبار أئمة النحو البصريين مثل عيسى بن عمر الثقفي (ت 149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت 154هـ) والأخفش (ت 177هـ) ويونس بن حبيب (ت267) وكبار أئمة النحو الكوفيين مثل الكسائي وأبي جعفر الرؤاسي والفراء المتوفى في 208هـ.
ذلك غيض من فيض الثقافة والعلم الذي كانت عليه بغداد عشية وصول سيبويه إليها حوالي 180 للهجرة.