جاسم عاصي
شكلت فوتوغرافيا الفنان العراقي المغترب (إحسان الجيزاني) مجالاً حيوياً ، ساهم في تحقيق ريادة في انتاج للفوتوغراف ، لما توّفرت عليه لقطاته من صفاء ونقاء لوّني وضوئي. يُضاف إليه تنوّع مشاهده ، بخصائصها الذاتية والموضوعية . فهو متنوّع الرصد ، وشديد الخوض في تجاوز أي منطقة يدخلها بكاميرته .فثمة رصد لبيئات مختلف كبيئة الماء ، والطقوس المندائية على ضفاف الأنهار ، والأرصفة وما يجري عليها وما تركته الحروب من دمار على البيئة كمجازر النخيل في الجنوب ، وحصراً في مدينة الفاو .نختار منها ما تداول في بيئة الصحراء .
مشاهد صحراوية
الانفتاح الذي يحتوي على بيئة الصحراء بكل مكوّناتها ؛ من رمال وأشعة شمس حارقة وكاشفة ، ومديات واسعة وحيواتها ..كل هذا يوّفر للمصوّر فرصة غنية بانتقاء الصفاء والنقاء، مما يؤهل عين الكاميرا للبحث عن الأوفر صفاء وسط صفاء طاغ . والفنان(الجيزاني) كما وجدناه في بيئة الماء ، نراه يركز على صفاء الصورة منطلقاً مما يتوّفر لعين الكاميرا من اختيارات .وهو بطبيعة الحال اختيار كلي يفرضه نقاء البيئة وبدائيتها . إذ نجده يركز على الأجزاء المعبّرة بدقة عن البيئة وقدرتها على الكشف عن الصيرورة التي عليها الموجودات المجردة من الإضافة ، كالعيون ، والوجه ، وطبيعة الحيوان كالجمل. وهذه الأجزاء تقود إلى الكليات التي يتحلى بها إنسان الصحراء الذي نحتت وجوده الحياة المجردة من بهاء المُدن وسحرها الحضاري
المضاف.
فاللقطة التي ركزت على الوجه ككادر الصورة الفني ، لم تنشغل بالتفاصيل الخاصة بالوجه ، بقدر ما ركزت على حيوية العينين ، التي هي المركز الذي يُعين إنسان الصحراء على معرفة البعيد والقريب من جهة ، وحدس الأشياء(الفراسة) في رؤية الآخر .لقد وسّع من حدقتيّ العينين وحمّلهما القدرة على كشف غير المرئي لدينا ، فهي عين عاكسة ومستوعبة للمرائي ، وقادرة على تشكيل الموّقف عبر نظرات فيها مرونة وحدّة في آن واحد . فهي نظرات محايدة ، لكنها تضمر خفايا خلقتها مشاهد البيئة ، مما أضفى على الشخصية قدرة ذاتية في كيفية التمييز بين الأشياء .إنهما عينان يكمن في بؤبؤ كل منهما سعة العالم والكوّن الصحراوي .
فهي نظرات تميّز القريب والبعيد ، وتُعيد إليه اعتباره .بينما تتأكد الخصائص نفسها في لقطة أُخرى ، تجمع إنسان الصحراء والجمل . لذا فقد عمد المصوّر إلى تجسيد رأس الجمل ، بما فيه من صلابة وجهامة وكثافة في طول الرقبة ، وحجم الرأس الملفت للنظر ، يوازيه نظرات راعيه الذي أخفى كل ملامحه ، وترك العينين أيضاً دليله في المسير . هذه اللقطة تُثير حالة التوازي بين رؤية الإنسان والحيوان ، حيث تكون كشوفات الإنسان موازية لكشوفات الجمل ، الذي هو حيوان يُدرك ما لم يُدركه الإنسان والعكس صحيح . ولعل الروائي الليبي(إبراهيم الكوني) هو أول من كشف عن مثل هذه الخصائص في روايته الخماسية . فوازى بين (غوما) وحيوات
البيئة .
فكل منهما خالق للآخر ومؤسس لخصائصه .وعلى النبرة نفسها من التعبير نجده يُحقق لقطة فريدة ، تكشف رؤية الجمل للبعيد ، بينما يبدو الإنسان أكثر استقراراً أمام توحده مع جدار الرمال المائل إلى الأصفر المزيج مع الجوزي
الفاتح .
هذه الدرجات من الألوان خلقت أطيافاً صحراوية ، بدت دليلاً إلى وجود الإنسان والجمل ضمن كادر فني وازى فيه خلق الأشياء والنظرات الكامنة في كل منهما ، فللجمل نظرته وللإنسان مثلها ، لكنهما يتوحدان في الاحساس الذي خلقته البيئة بكل مكوّناتها .
إن فرادة اللقطة يكمن في سرديتها ، فالفنان( الجيزاني) يحاول عبر عين كاميرته خلق سرود بيئية قادرة على توسيع الدلالة في ما هو مجسّد في كادر الصورة . فهي وإن بدت لقطة عفوية ، لما للبيئة من ذلك ، لكنها لقطة مدروسة ، بدليل قدرتها على البث الدلالي .السردية في صورتن التقطهما لقافلة صغيرة صحراوية .راعى خلالهما فراغ البيئة ، سواء كان مجسّداً في امتداد الأرض الرملية ، أو السماء المفتوحة . إن التركيز على تموّج الأرض يُعطي خاصية الفضاء المائي
كالبحر .
لذا نجد الفنان ، يُركّز على المؤثر ويرصد بدقة
الأثر .
ومثل هذا صورة القافلة على جدار كثبان الرمل الظاهرة كجدران رملية ملتوية ، تظهر صورة القافلة بكل بهاء تكشفه أشعة الشمس الفتئضة. فهو ظِل القافلة السائرة ، مواز لها . بينما نجد في اللقطة الثانية ، قد توّفر المجال الصحراوي ، بمسافاته الأربع ، نقطة الوجود وسط يسار واسع ويمين كذلك وفضاء مفتوح ، وأرض ممتدة . بينما تُشكل القافلة السائرة في فيض البيئة أقل نقطة وسط كوّن
واسع .
هذه اللقطة لا تعني الضياع في البيئة عند الصحراوي ، بقدر ما هي دالة على التوازن والتوازي بين الحيوات في الصحراء .إن الاهتمام بعكس الفيض المكاني دليل على رؤية الفنان لمجالاته لفنية التي تعبّر عنها الصورة . فهو عبر كل البيئات استطاع أ، يؤكد السمات الخاصّة والعامّة ، مما وفّر لصوره مجالاً واسعاً للنجاح الفني ، وعلى أسها الصفاء الذي عم كل
لقطاته .