عادل العامل
إذا نظرنا إلى الفساد في معناه الأساس الشامل، فإننا نجده حالة طبيعية تصيب ، بطريقةٍ أو بأخرى، جميع الكائنات على الأرض، بما في ذلك النبات، والحيوان، والجماد، والبشر.
وهو يقوم على ثلاثة أركان رئيسة:
• الكائن أو العضو الفاسد
• الظروف أو الأسباب المؤدية إلى الفساد
• العوامل المساعدة على استمرار الفساد
وإذا اقتصرنا في حديثنا هنا على البشر فقط، فاننا نجد أن هذه المخلوقات محكومة، في تكوينها البايولوجي وطريقة تفكيرها وسلوكها، بأمورٍ عدة، منها جيناتها أو مورّثاتها الخاصة، ومقدار تطور قشرة مخها، وأسلوب حياتها، ونمط تربيتها، والظروف والعوامل الفردية والاجتماعية التي تمرّبها. وهذه جميعاً هي التي تحدد، مستقبلاً، شخصية الواحد منها، وتوجّهاته، وميوله الفكرية والنفسية. بل وتجعل منه، وفقاً لدراساتٍ علمية حديثة، إنساناً صالحاً أو طالحاً، قيادياً أو قطيعياً، يمينياً أو يسارياً، ميّالاً إلى العنف أو محباً للسلم وعمل الخير .. إلى آخره.
وبالتالي، فإن سلوكاً مذموماَ، كالفساد، مثلاً، ليس خياراً شخصياً بل هو ميل ذاتي أوجدته لديه المكونات الآنفة الذكر، وشجّعته عليه طبيعة الوضع العام المحيط به، بما في ذلك الأفراد الذين يتعاملون معه في حياته اليومية. ولهذا تجد الفاسد مستمراً في فساده بالرغم من عدم حاجته مالياً، على سبيل المثال، إلى السرقة، أو الاختلاس، أو الرشوة، وبالرغم من احتقار الناس للفاسدين وتعرّضهم في نهاية الأمر إلى الافتضاح، والسجن، وخسارة كل ما كسبوه بطريقةٍ مخالفة للعرف وتعاليم الدين والقانون.
والفساد أنواع كثيرة جداً، كما هو معروف. ولو تناولنا منها الرشوة فقط، وهي الأخرى أنواع متعددة، منها المادي والمعنوي واللفظي، فإننا نجد أنها تنطوي على ثلاثة مقوّمات: الراشي والمرتشي والرشوة، التي قد تكون: مالاً، هدية، “إكرامية”، فائدة متبادلة، إطراءً نفعياً، أو وعداً بمتعةٍ أو مكسبٍ مادي أو منصب، على أعلى مستويات الخدمة العامة والخاصة وأدناها.
والراشي هنا أسوأ خُلقاً وضرراً على الناس من المرتشي، وإن بدا أقل انحطاطاً، أو “أرفع مكانةً” من هذا في نظر كثيرين، بحكم قدرته على العطاء. ذلك لأنه إنسان يُفسد غيره من أجل منفعته الذاتية، لا يهمه سوى تنفيذ ما يريد، أو قضاء حاجته الشخصية الذي ربما تسبب في إيذاء الناس، أو مصادرة حقوقهم، أو إهلاكهم حتى، كما حصل مثلاً في إطار الإرهاب الذي ضرب العراق، من خلال تزوير الوثائق الرسمية، وتمويل الإرهابيين، ونقل المتفجرات، وشراء السيارات المطلوبة للتفجير، وتمرير المركبات الملغومة وغيره، لقاء رشوة معينة. فالراشي هو العنصر الأساس في هذه المعادلة المُشينة. ولا رشوة من دونه، بالتالي. ولو امتنع الناس جميعاً، على سبيل الافتراض، عن تقديم رشوةٍ لتمرير معاملةٍ لهم بطريقة غير قانونية، لن يكون هناك مرتشون، بطبيعة الحال. ولا يعود هناك بالتالي فسادٌ، كهذا الذي يستنكره الناس جميعاً، ويمارسونه في الغالب مع هذا ، لتحقيق منفعةٍ ما خارج إطار الشرع أو القانون أو العُرف. بل أن هناك من الناس مَن يلوّح بالرشوة، أو يقدّمها لبعض الموظفين والموظفات “الماجدات”، حتى من دون أن يطلبها هؤلاء أو تتطلبها المهمّة أو المعاملة التي ينجزونها!
ولا بد لظاهرةٍ “طبيعية” كهذه، على كل حال، من ظروف طبيعية سليمة كي تنتهي من الوجود ظاهرياً، أو جزئياً، في الأقل. إذ يولد الناس، كما ذكرنا آنفاً، ولديهم، جينياً، مكوّنات شخصياتهم المستقبلية، كما يقول العلم، إضافةً للمؤثّرات الفردية والعائلية والاجتماعية التي تفرزها تفاعلات حياتهم اليومية منذ الطفولة. ومن هنا فإن معالجة ظاهرة الفساد لا تتم بالاستنكار والشجب الجماعي المجّاني المعتاد، وإنما بالامتناع عن المساعدة عليه، وبالسعي الجاد إلى توفير الظروف والوسائل التي تحدّ تدريجياً في الأول من حدّة الظاهرة، وتقلّل من “عاديّتها” اجتماعياً، ومنها على سبيل المثال:
• تربية النشأ الجديد على احترام النفس والترفّع عن النجاح الزائف، أو الكسب القائم على الخداع والنفاق ومخالفة القانون والقيَم الأخلاقية النبيلة.
• توسيع شبكة الانجاز الألكتروني لمختلف معاملات المواطنين الرسمية، بحيث ينعدم، أو يتقلص إلى حدٍ كبير، حيّز المحاباة والتلاعب غير المشروع فيها.
• زيادة الرقابة الداخلية الخفيّة المنظّمة في مختلف أجهزة الدولة لتحديد مثل هذه المخالفات وإحالتها إلى القضاء فوراً، كما تفعل أجهزة المخابرات في تعقّب الجريمة والإرهاب، الذي لا يقل عنه الفساد سوءاً، إن لم يكن أشد ضرراً وأبعد تأثيراً وأعمّ.
• تشديد العقوبة القانونية على المدانين بتهمة الرشوة، بخاصةً الراشون منهم.
• معالجة المرتشين طبّياً، وفقاً للتشخيص العلمي، بهدف التخفيف من حدة الدافع غير الحميد، الموروث والمكتسَب، إلى سلوكهم الضارّ بهم وبمصالح المواطنين والمصلحة العامة، إضافةً بالطبع للعقوبة القانونية المناسبة، وفقاً لحالة المرتشي “المرَضية” والأضرار الناجمة عنها.
• تسليط الضوء الكاشف والمتنوع الأبعاد على الظاهرة تربوياً، وفنياً، وإعلامياً، و، ودينياً، باعتبارها عملاً مخزياً وليس شطارةً من الفاسدين والمفسدين، أو ضحكاً على ذقون الناس والقوانين والسلطة القائمة!