إيديولوجيا العلمويّ

ثقافة 2024/08/28
...

أحمد عبد الحسين

في مقالات وحوارات كثير من المثقفين نلحظ نمطاً من مقابلة الجماليّ بالعلميّ، يُزدرى فيه الأوّل ويُرفع شأن الثاني، كما لو أنّ زمن ما هو جماليّ شارف على الانتهاء؛ والكلمة الوحيدة المقدّر لنا سماعها اليوم هي كلمة العلم.
الشعر خصوصاً “لكنْ الدين كذلك” مَن يُجرّ عنوة إلى مقارنة كهذه ليبدو نافلاً، سقط متاع ولا ضرورة له. وتمضي المغالاة إلى أقصاها عند هؤلاء فيظهر أن “سبب تخلفنا” هو الشعر الذي بشيوعه أنسانا العلم الذي هو مفتاح النجاح. ولولا أننا أمة شاعرة لكنّا أمّة عالمة. عندهم أن الشعر الجدار الذي لا بدّ من هدمه لدخول رحابة علمية سبقنا إليها آخرون.
المنطق تبسيطيّ كما ترون. وكل تبسيط هاربٌ من تعقيد هو البدّ الملازم للحقيقة. لكنّ بعض المصادرات التبسيطية لها قوّة الشائعة، وثقافتنا تتقوّم بالشائع وتبني عليه. والشائع لا يُردّ لأنه أقربُ للأذهان وأيسر للفهم ولا يستلزم مؤونة بحث أو إعمال فكر.
لا يمكن لمثقف الشائعة أن يحيا من دون “إيديولوجيا” تسهّل عليه فهم العالم المعقد وتردّه إلى عنصرين بسيطين دائماً: أبيض وأسود. وبانتهاء زمن الإيديولوجيات الكبرى يجيء العلم طوق نجاة لكثير ممن لا يقدرون على التعاطي مع العالم إلا عبر نافذة إيديولوجية.
صار العلم عند هؤلاء “بنظرياته وكشوفاته ومعارفه بل وحتى جمالياته” إيديولوجيا محضة جوهرها أنّ العلم هو النسخة الوحيدة من المعرفة، أو هو “بتعبير هيدغر” المجال الوحيد الحقّ للكينونة. وهذا الحصر أشبه ما يكون بمقررات معممة دأبت عليها أحزاب يسارية أو قومية وفرضتها منهاج رؤية وعمل.
للعلم مجال خاصّ يطرد من ساحته كلّ حساسية ذات منشأ ذاتيّ. وهذه الموضوعية الصلبة هي التي تمنحه قوامه وأهميته. والتطور العلمي ملحوظٌ ومتسارع لأنه يحدث خارجاً بعيداً عن الإنسان بما هو ذاتيّ ويتعاطى مع عناصر مضبوطة ومفهرسة وليست عرضة لخلاف. غير أنّ الإنسان في آخر الأمر ذاتٌ، ذات منفردة وجوّانيتها أخطر على كينونته من كلّ ما هو خارجها. وبتحوّل العلموية على يد مثقف الشائع إلى آلة قياس لتقويم كلّ ما هو غير علميّ فإننا بإزاء الحال التي تحدث عنها هيدغر بقوله “المهمة الوحيدة الواحدة للفيلسوف هي أن يتدخل عندما يفهم مجال العلم بوصفه المجال الوحيد للكينونة”.
ثمة فقر أنطولوجيّ في كل ما هو موضوعيّ بعامة. يُفقَد أثر الحياة من العالم حين يشيع هذا الفهم العلمويّ لا بسبب العلم طبعاً وإنما بسبب تحوّل العلم إلى إيديولوجيا نابذة. فالعالم الذي نحيا فيه هو عالم إنسانٍ ما لا عالم موجودات موضوعية، والإنسان لا ينفكّ عن تشكيل نواته بظواهر جمالية ودينية وسياسية.
يفترض العلمويون عالماً يمكن للإنسان الاستمتاع به بسعادة برغم أنه غائب عنه ذاتاً. وهذه وصفة لديستوبيا معتمة تترصد الإنسان. في الحقيقة فإن كل الإيديولوجيات، يسارها ويمينها، كانت سائرة إلى ديستوبيا ما قبل إيقافها أو تحطمها.
الرؤى القيامية منذ ما قبل التاريخ تشترك جميعها بسمة تتمثل في تصويرها انقطاع العالم عما هو ذاتيّ جوّانيّ. ورؤى العلموية التي تزدري الجماليّ والدينيّ لا تختلف كثيراً عن هذا التهويل القياميّ التقليديّ عبر القرون.