الهُويَّة والوجود في العالَم

ثقافة 2024/08/28
...

محمَّد حسين الرفاعي

وفقاً لأرضيَّة الوجود في العالَم، في أنَّها ضروبُ فعلٍ وإمكانٍ، وكيفُهما، يمكننا أن نتساءَل عن إمكان التموضع في العالَم؛ أي أن نتكاون (نسبةً إلى الكينونة) مع العالَم، وفيه. كيف نتموضع في العالَم؟ وما هي الإمكانات التي نتوفر عليها في السَّبيل إلى ذلك؟ وما هي الشروط الموضوعيَّة التي تُحدِّد في كلِّ مرة، طبيعة وطريقة تموضعنا في العالَم؟ إنَّها تساؤلات الكينونة، كينونتنا نحن، وفعلنا نحن، وإمكاناتنا نحن، وتفاعلنا مع العالَم نحنُ.
[I]
إنَّ التَّساؤل هذا ليس ممكناً إلاَّ بعدَ أن نتوفَّرَ على معنى كينونتنا، وكيف يمكن تقويم ذاك المعنى. أعني بذلك الذِّهاب مباشرةً إلى المصادر المعرفيَّة، والمجتمعيَّة، وبالتالي الوجودية، التي في كل مرَّةٍ، تجعل من فهم كينونتنا الفهمَ هذا، أو ذاك. الفهمُ من حيثُ إنَّه أسُّ تفسيرنا لكينونتنا ولعلاقتنا بالعالَم، أي بتوسُّطِ فهم العالَم الذي لنا، وفينا، وبنا، ومِنَّا.  
[II]
ومن أجل ذلك علينا أن نعي بداهات العالَميَّة، قَبلَ الاِنطلاق بأي محاولة من محاولات تموضعنا في العالَم. لأنَّ البداهة على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها تُفهم، إلاَّ أنها، قبلَ ذلك، هي تكون فينا، ونحنُ نكونها؛ أي تعيِّنُ كينونتنا، ضمن طبقات فهم تُبنى مفاهيمنا فيها، ومستويات تفكير ننطلق منها في التفكير بواقعنا، وحقول مجتمعيَّة للفعل الإنساني تجعل من الإنسان قادراً على أن يكون [في- الخارج]. وهي البداهات الآتية، على أقل تقدير:
[III]
- I البداهة الأنطولوجية: إنَّ إمكان العالَميَّة يُتوفَّر عليه من خلال المساهمة في عالَميَّة المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة، على نحو بناء وإعادة بناء المفهوم العلميّ والفلسفي، من جهة، وهو بذلك يمكِّنُ من الوَضْعِ Objectifying في كل ضرب من ضروب أفعالنا من حيثُ إنَّه يوفِّر لها أرضيَّةً وجوديَّة، ولكن تعيُّنات قَبْلِيَّة أيضاً، عَبرَ ثقافة عالَميَّة واحدة، واِقتصاد عالميّ واحد، وسياسة عالَميَّة واحدة.
[IV]
- II البداهة الوجودية: تتضمَّنُ ضروبُ التعدُّد، في الوجود في العالَم، فتحَ إمكان التعدُّد في العالَم، والتعدُّد في الأفكار والأفعال، وطبيعة وجودها في العالَم. ماذا نعني بذلك؟ نعني بأن العالَميَّة، من حيثُ إنَّها مفهوم مؤسِّسٌ لنمط الوجود في العالَم، من جهة كونه بِنيَة مفتوحةً على التحديد وإعادة التحديد في كلِّ مرة، إنَّما هي مشروع لم يكتملْ بعد. ومن حيثُ أننا أمام عالَمٍ مليء بتعدُّد الهويات والآيديولوجيات، واِختلاف جذري في المصالح والمنافع، فإنَّ ما يمكن أن يُؤخَذَ بوصفه عنصراً بنيويَّاً يقوِّمُ نمط الوجود في العالَم إنَّما هو تلك النَّظرة إلى العالَم القائمة أساساً على الـ [بين- بين]. ذلك ما يجعل [الثقافة- العابرة- لـ - المجتمع] أن تُصبِح ثقافةً عالَميَّة. وهذا يشتمل على أن الثقافة، من حيثُ إنَّها في طور من التحوُّل المستمر في علاقتها بالخارج، إنَّما هي لم تُتْرَكْ لتنفتحَ على الثقافات الأخرى؛ بل هي في جذرها، في أساسها من حيثُ إنَّها عالَميَّةً أو لا تكون، مفتوحةٌ على الثقافات الأخرى. إنَّ الثقافة العالَميَّة أساسَ الوجود في العالَم. ولكن ما هي هذه الثقافة العالَمية من جهة أنها ثقافات وضروب مُثاقفة بين المجتمعات؟
[V]
-III البداهة الميتافيزيقية: لا يمكن للمجتمعات أن تدخل في علاقة مُثاقفة من دون ميتافيزيقا الثقافة العالَميَّة. نعني أن المجتمعات تقوم على علاقة ثقافية فيما بينها عَبرَ نماذج الوعي العالَميَّة التي تسبق كل ضروب العلاقة بين المجتمعات. إنَّ ميتافيزيقا الثقافة العالَميَّة إنَّما هي فلسفة ما بين الثقافات في كل مرةٍ؛ بحيث أنها تعيِّنُ القَبْليَّ Priori في علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، والمجتمع بالمجتمع الآخر، على أساس فلسفة ما بين الفلسفات، وثقافة ما بين الثقافات. إنَّ ما يطلق عليه Dieter Senghaas ديتير سنغاس تسمية “فلسفة ما بين الثقافات Intercultural Philosophy” (The clash within civilization- الصِدام ما بين الحضارات)  التي تتأسس وفقاً لفكرة الاِنتقال من المجتمع الكلاسيكي إلى المجتمع ما بعد الحديث، من جهة، وهي آخذةٌ في الاِنتشار بفعل ما يقع داخل هذه المجتمعات من تغيُّرات ثقافية- اِجتماعية، من جهةٍ أخرى، تبقى فكرة ناقصة ما لم نتساءَلْ داخل حقلها عن أساسها الميتافيزيقي في العاَلم. أو بعبارة مباشرةً إنَّ الأساس الميتافيزيقي للثقافة العالَميَّة يؤسِّسُ فلسفةً عابرةً للفلسفة التي أُخِذَت من منظور أحادي البعد، وهي تفتح إمكان تجاوز الثقافة وتخطيها نحو ثقافةٍ يستحيل أن تنتج وتعيد إنتاج مقولاتها ضمن منظورات أُحاديَّةٍ في النَّظر والرؤية والوعي.
[VI]
-IV البداهة الإبستيمولوجيَّة: إنَّ الاِعتراف بتاريخ فشل التأويلات الجديدة في العلاقة بالعالَم، تلك التأويلات التي تخص الحياة المجتمعيَّة العامَّة، والحياة الفردية الخاصَّة، يعيِّنُ، هذا الاِعتراف، منظورَنا إلى ذات أنفسنا العميقة، من جديد. ولأننا إزاء ضرب من ضروب التفكير الأنطولوجيَّة، أي تلك التي تشرع بتعيين موقعنا في العالَم، فإنَّ النَّظر في التَّساؤل عن الذَّات ههنا، يأخذ معنى إبستيمولوجيَّاً متى أصبحَت حدود النظر إلى ذاتِنا قائمة على محدِّدات معرفية لما نعرف عن ذاتنا، وكيف نعرف ما نعرفه عن ذاتنا، ومصادر معرفتنا بذاتنا. ولكن، ومن جهة أن المعرفة في أساسها قائمة على تساؤلات جديدة، فإنَّه من البداهة أن نضع تساؤلات إمكان التموضع في العالَم، على نحو جديد، وعلى أرضيَّات معرفية جديدة. وفي هذا السَّبيل، نتساءل بالتوقف عند الآتي على أقل تقدير:
- I ما هي ضروب اِختزال الذَّات العربيَّة- الإسلامية بتوسُّطِ النص الديني المقدس، في كل الأحايين، وتحديدها به؟ وكيف يمكن أن يُعاد فهم ذلك على نحو عالَمي؟
- II ضمن أيَّة معانٍ يمكن الاِعتراف بأن السعي إلى التأويلات، تأويلات النص الديني المقدس وعلاقة ذلك بحياة المجتمع والإنسان، والتاريخ والهُويَّة، من جهة، وتاريخ الفشل فيما يخصُّ علاقتنا بالعالَم، ثقافيَّاً واِقتصاديَّاً وسياسيَّاً، من جهةٍ أخرى، قد اِصطدما ببعضهما البعض، من خلال الصراع العنيف بين تجديد الوعي المجتمعيّ، والدفاع عن الأصل؟
- III هل يمكن، بعد فشل مشاريع أسلمة المجتمع، وإسلامية المعرفة، من جهة، وبعد إخفاقات تعولم المعرفة، وعلمنة المجتمع، من جهةٍ أخرى، أن نتساءَل عن إمكان العالَميَّة في المجتمع وأن ندفع في السَّبيل إليه؟ وإمكان أن ننتج معرفة عالَميَّة، ونعلِّم في هذا السَّبيل؟ نعم إنَّه ممكن. لكن، بعد الوعي بفشل المشاريع الآيديولوجية في المعرفة والمجتمع، في علاقتها بالعالَم.
- IV ضمن أيَّة معانٍ، وعلى أي نحو يمكننا أن نعيد إنتاج الواقع على هَدي إعادة بناء المفاهيم العِلميَّة والفلسفية الحديثة وما بعد الحديثة التي تخصُّ مجتمعاتنا العربيَّة؟
[VII]
ولكن ما هي الحاجة الملحة لإعادة وضع تساؤلات، قد تبدو، في الوهلة الأولى، من البداهة بحيث أن إعادة طرحها إنَّما هو ضرب من سوء الفهم تجاه الموضوع؟ موضوع الفهم والتفكير والتفكُّر؟ إنَّ ذلك يرتبط، في ضرب تناولٍ له على نحو التحديث، بماهية التفكير ذاته. ذاك الذي يريد، في كل إمكاناته، أن يتقوَّمَ، بالتجديد. إنَّ التجديد يُصبح تحديثًا متى كان التَّساؤل تساؤلاً جديداً، وليس جاهزاً يُقدَّمُ للفكر على نحو التَّساؤل المعدِّ سلفا.
إنَّ بناء التَّساؤل إنَّما هو أوَّل التجديد، تجديد الإشكاليات وبالتالي تجديد الفرضيات. إشكاليات الفكر، وفرضيات الفهم. بمعنى آخر، لا يمكن أن نكون أمام تجديد الفكر، اِنطلاقاً من علاقة الفكر بالعالَم، ومحاولات الفكر لبناء علاقات عالَميَّة مع العالَم، إلاَّ متى اِستطعنا، مرة أخرى، أن نعيد بناء تساؤلات الفكر على الواقعيِّ المتغيِّر في كل الأحايين.
وكي لا ينجم عن ذلك أي سوء فهم، أو لغط في فهم الإشكاليات الأساسيَّة للفكر، علينا أن نصرِّحَ مباشرةً بأن التَّساؤلَ الجديد، إنَّما هو رافعة الفكر الجديد. إنَّ نسيان أو حتَّى تجاوز التَّساؤلات القديمة إنَّما هو كيفُ التهيُّؤ لأنَّ يتجدد الفكر في كل الأحايين. إذ إنَّه لا فكرَ جديداً من دون فلسفة جديدة لبناء التَّساؤلات الجديدة. نعني بالتساؤل الجديد ذاك الذي يتعيَّن على نحو: – I تجدُّد الواقع المجتمعيّ المحسوس: تجدُّد الثقافة، والاِقتصاد، والسياسة، و – II وتجدُّد مصالح المجتمع والإنسان في العالَم اليوم، و – III تغيُّر الثقافات والمجتمعات وفقاً لتغيُّر القوانين والتشريعات العالَميَّة، و – IV تصيُّر العلاقات بين الدول، والسوق العالَميَّة، وفقاً لسياسات اِقتصادية جديدة على الدوام.
[VIII]
لا يدَّعي الفكر الجديد وضع حقائق مغلقة نهائيَّة، ولا هو يضطلع بمهمة تقديم إجابات سريعة وجاهزة تزيل القلق المعرفيّ، ولا يرفع الفكر الجديد شعارَ التخلُّص من أوهام معرفية وخرافات فكرية شائعة متربصة بكل محاولة جديدة للتفكُّر على نحو جديد، ولا حتَّى يفهم الفكر الجديد نفسه على أنَّه المُخوَّل بذلك. هو لا يبحث عن تفويض، ولا عن إجازة وإذْنٍ بالولوج إلى الموضوعات. إنَّ ما يفعله الفكر الجديد، وما ينبغي أن يضطلع به، في كل ضرب من ضروب إمكانه، وشروط الإمكان التي من شأنها، إنَّما هو يتمثَّل، بناءً على منطق الفهم الخاصّ بالتساؤل، في الآتي:
- I فلسفة جديدة لبناء الموضوع الجديد، وفقاً لفلسفة جديدة ليس من ضمن مهامها اِستنساخ المعرفة، ولا النقل، من الخارج الزماني (التُّراث)، ومن الخارج المكاني (بلدان الغرب)، مناهج المعرفة، كما هي. بل تتعالق معها على نحو إنتاجها من جديد، وإعادة إنتاجها على نحو آخر. هذه الأخيرة تتعلَّق بضروب وضرورة فهم الواقع من حيثُ إنَّه جديدٌ في كل مرَّة.
- II محاولات وعي مصادر التَّساؤل الفكري- الفلسفي الحديث بالاِستناد إلى علاقة الفكر بذاته، من جهة أولى، وعلاقته بالفكر العالَمي، من جهة ثانية، وعلاقته المباشرة بالواقع الفعلي، من جهة ثالثة.
- III التدرُّب على التَّساؤل الصحيح- السليم، علميَّاً وفلسفيَّاً، يتضمَّنُ معنى الاِنفتاح على النقد والنقد المضاد، الممارَسَيْن من قِبَلِ الاِتجاهات والمدارس الفلسفيَّة المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعة.
- IV السعي إلى التمييز بين العقل الديني والعقل العلميّ. يبحث الأول على إجابات نهائية، وحقائق مُنجزة على الدوام، فيما يبحث الثَّاني عن إعادة بناء التَّساؤلات الصحيحة والسليمة التي تُسهم في الفهم، ضمن حقول علوم الفهم. وبالتالي، علينا التمييز بين بحث العقل الديني داخل الحقول المعرفيَّة، العِلميَّة والفلسفية، باحثاً عن إجابات جاهزة لعالِم أو فيلسوف، أو اتجاه فلسفي أو علمي، أو مدرسة فلسفية أو علميَّة، وبحث العقل العلميّ داخل الحقول المعرفيَّة، العِلميَّة والفلسفية، باحثاً عن إمكانات إعادة إنتاج التَّساؤلات العِلميَّة، وإعادة بنائها وفقاً لمصادر التَّساؤل العلميّ- الفلسفي الحديث وما بعد الحديث.