داود زيدان .. خارج دائرة الضوء

ثقافة 2024/08/28
...

 ريسان الخزعلي

ميسان، كغيرها من محافظات الجنوب، مستقرُّ للغناء الريفي الشعبي، ومن تلك البيئة الزاخرة بالمياه والطبيعة الريفية، التي تتسم بعذريتها التي تفتح شهية الأصوات للانطلاق بالمواويل والغناء النابع من أعماق الوجد، ظهرت الكثير من الأصوات التي كان لها حضورها المميز في الحفلات والأفراح والمناسبات الاجتماعية، التي يكون فيها صوت المطرب الشجي مؤنس لياليهم، ويظل صدى صوته يتردد بأجواء القرية وعلى ألسنة الناس.
 على الرغم من الآلات الموسيقيّة البدائيّة التي ترافقه: مسعود العمارتلي، كَريري، جويسم، سلمان المنكوب، سيد محمد، فالح، عيسى بن حويلة، حريب حبيب، رسن، شمّام.. وغيرهم من الأصوات اللاحقة المعروفة التي سجّلت حضورها من خلال الإذاعة والتلفزيون والتسجيلات الحديثة والحفلات منذ الخمسينيات من القرن الماضي.
من بين المطربين الأوائل المنسيين، المطرب داود زيدان الذي لم يَعُد له أي استذكار في التداول الغنائي الريفي، الشفوي أو الصوتي أو التوثيقي، إلّا ماجاء بكتاب "غناء ريف العراق" للباحث المعروف ثامر عبد الحسن العامري. وعلى الرغم من سماعي الكثير من الحكايات الشفاهيّة عن حياته وغنائه ومعاناته الحياتيّة التي كنت ُ أسمعها من كبار السّن في مدينة العمارة، إلّا أني اعتمدت ُ كتاب العامري مرجعا ً استخلصت ُ منه هذه المعلومات التي آمل أن تُفيدَ مَن يهتم بتراث غناء الريف العراقي الجنوبي.
ولد َ المطرب في الكحلاء بمحافظة ميسان العام 1914، ودخل المدرسة الابتدائية، وظهرت موهبته الغنائية من خلال الحفلات المدرسية. وبعد أن شب َّ عوده تأثر بمطربي محافظته، وعلى رأسهم مسعود العمارتلي، وأخذ يحضر مجالس الغناء والطرب التي يُحييها مطربو المحافظة آنذاك.
وأوّل حضور غنائي شعبي له ُ كان العام 1936، إذ حل َّ محل المطربين الذين هاجروا إلى بغداد، وقد تمكّن بموهبته العالية من أن يسد َّ فراغهم غنائيّا ً.
تأثّر بغناء حضيري أبو عزيز، وأجاد هذا الغناء، ولم يَعد من السهولة التمييز بين صوته وصوت حضيري أبو عزيز.
أصبح معلّما ً للرياضة  في واحدة من مدارس ميسان، وكان يُلقي الشعر في المدرسة بدقّة ووضوح  وكأنّه يُغنّي. أحب َّ فتاة ً حبّا ً أنساه ُ التعليم، وأصبح الغناء وسيلته  في المناجاة، إلى الحد ِّ الذي شبّه بالمجنون. ولما كان للتعليم يومذاك  اشتراطاته التي هي  خارج الانغمار بالغناء والهيام، فقد فُصل من عمله كمعلم.
غادر العمارة إلى بغداد، ودخل دار الإذاعة العام 1939، وقُبل َ فيها مغنّيا ً، وغنّى على البث الحي حتى العام 1958.
ثم َّ انتقل َ من بغداد إلى البصرة، وعمل َ موظّفا ً في الميناء لفترة قصيرة، ومن ثم َّ عاد إلى بغداد العام 1962 وسجّل َ في تلفزيون بغداد أغنية بمناسبة استقلال الجزائر، كما سجّل بالاشتراك مع المطرب مجيد الفراتي بعض الأغاني الثنائيّة.
أجاد الكثير من الأطوار، وبرع بطور المناجاة، وهو طور ديني صعب، غير َ أن َّ داود زيدان حوّله ُ إلى طور شجي. كما أجاد أطوارا ً عدّة، وهي : الحياوي، المحمداوي، الملّائي، الشطراوي، المستطيل.
وأخيرا ً عاد إلى البصرة وتوفّي َ هناك العام 1966 عن عمر ٍ تجاوز الخمسين عاماً.
لولا جهود الباحث ثامر عبد الحسن العامري، لما استطاع أحد ٌ أن يجد َ للمطرب داود زيدان أي أثر ٍ غنائي أو توثيقي، ولكان َ مطربا ً منسيّا ً، غير َ أن َّ الإبداع لا يندثر طالما كان أصيلا ً، وطالما كان الباحثون على وعي ٍّ بتراثهم الشعبي.