ذبَّابُ الجرش

الصفحة الاخيرة 2024/09/01
...

محمد غازي الأخرس
حسناً، مقابل مفردة "مكطم" التي يعير بها من لا ينتسب إلى عشيرة في مجتمعنا، هناك مفهوم "ذبّاب الجرش"، الذي يطلق على المنتسب بالولاء لعشيرة غير عشيرته الأصلية. يقولون: "فلان ذب جرش ويه فلان عشيرة". وهي ظاهرة عرفها العرب قديماً، فيما يسمى الانتساب بالموالاة لا بالدم طلباً للحماية. أما ذبّاب الجرش، فيتمتع بجميع حقوق ابن العشيرة الأصلي، وعليه الالتزام بالواجبات نفسها، إلا أنه مع هذا يمكن أن يعير بكونه "ذبّاب جرش" بعد مئة عام من انتسابه. لهذا تشيع عند أبناء العشيرة كناية يستنكرون بها احتقارهم من بني عمومتهم بالقول: "أني مو ذباب جرش!". 

لغوياً، تعود مفردة (جرش) إلى المصدر (قرش)، ومن معانيه الجمع، تقول العرب: تَقَرَّشَ القومُ: أي تجمَّعُوا، وقرش الشيء جمعه من هنا وهناك، وتسمية قبيلة قريش ترجع إلى عملها في قرش المال عبر التجارة، أو لأنها بطون متفرقة ثم تجمعت. الحال أن هذا النظام القبلي هو السائد قبل مرحلة الدولة في العالم، حيث الناس عبارة عن جماعات ترتبط عبر رابطة الدم، وكل من يجد نفسه خارج هذا النظام، يفقد الحماية التي تقدمها له العشيرة، وعليه أن ينتسب لأخرى. حضارياً، كان يفترض بهذا النظام أن يتفكك ويتحلل مع الوصول إلى مرحلة الدولة الحديثة، كما جرى في أوروبا، تحللت العشيرة وحل نوع مختلف من الانتماء يسمى المواطنة. أنت مواطن في دولة يحكمها القانون، ولا داعي لالتماس حماية من العشيرة. لماذا إذن بقي النظام القبلي عندنا عصياً على التفكك؟ لماذا ما زلنا موزعين بين ولائنا للدولة وولائنا للعشيرة؟ هل يستحيل الجمع بين النظامين؟ لماذا نجحت بلدان الخليج مثلاً في الجمع بين النظامين، لماذا ارتد العراق قروناً إلى الوراء لتستمر مفاهيم "المكطم" و"ذباب الجرش" بالاشتغال في ثقافتنا؟ أسئلة تحتاج إلى مقالات أخرى.