الفلسفة الدينيَّة عند عبد الجبار الرفاعي
ناجي الغزي *
سبعينيَّة المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي هي مناسبة مهمة لإعادة قراءة معالم فلسفته الدينيَّة وفهم أبعادها العميقة وتأثيرها على الفكر الإسلامي المعاصر. تعد فلسفة الرفاعي الدينيَّة غنيَّة بالتأملات الفكريَّة والنقديَّة التي تستحق الوقوف عندها وتحليلها بعناية. عند بلوغه هذا العمر الذي يعد ذروة النضج الفكري والعطاء العلمي. وهذا العمر يمثل لحظة تأمل في أثر رسالته الفكريَّة والفلسفيَّة على الناس والتاريخ، وشهادة على مسيرته الغنية بالتجارب والأفكار والنقاشات الفلسفيَّة والدينيَّة. تمتد مسيرته الفكريَّة الى عقود طويلة، اتسمت بالتحولات والتجديدات المستمرة، كما تظهر عمق تجاربه وتنوع أفكاره.
يدعو الرفاعي إلى إعادة تعريف الإنسان والدين والوحي والشريعة، وفهم نصوص الدين في سياق متطلبات العصر الحديث. ويجب أن يكون الدين وسيلة لتحقيق احتياجات الإنسان الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة، وأن يوفر له السكينة والطمأنينة. كما يعد أن الدين يجب أن يكون حياة في أفق المعنى، تلبي حاجة الإنسان لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفرديَّة والمجتمعيَّة. كما يؤكد الرفاعي في تعريفه للدين على أثر الدين الروحي والأخلاقي والجمالي في بناء الفرد، يشدد على أثره في بناء المجتمع أيضا.
التصوّف الفلسفي غير التصوّف الطرقي:
يشكّل التصوف الفلسفي جزءاً مهماً من التراث الإسلامي، وهو موضوع يحمل في طياته معاني ميتافيزيقيّة وروحيّة وأخلاقيّة وجماليّة عميقة. الدكتور الرفاعي يعيد إحياء هذا الجانب التراثي، ليس عبر التقليد الأعمى، بل من خلال دراسة نقديَّة تفتح آفاقاً جديدة للتفكير والفهم. في هذا السياق، يعبر الرفاعي عن ضرورة التعاطي النقدي مع التصوّف، مما يعكس رؤية شموليَّة ومتوازنة تجمع بين الاحترام للتراث والابتكار في طرق التعامل معه.
يرى الرفاعي أن التصوف الفلسفي يمثل منجماً ثميناً يمكن استخلاص الكثير من الجواهر منه، ولكنّه يتطلب مكتشفاً بارعاً قادراً على الغوص في أعماق النصوص الصوفيَّة واستخراج ما يزخر بها من معاني وقيم. هذا الاكتشاف لا يمكن أن يكون سطحياً، بل يجب أن يتعمّق في التحليل والنقد لفهم الجوانب المختلفة للتصوف وتطبيقها على السياقات الحديثة.
ورغم تأكيده على أهمية إحياء التصوف الفلسفي، يحذر الرفاعي من الانغلاق في مداراته الضيقة، ويشدد على أهمية استخدام أدوات نقديّة تُثري وجود هذا التراث. من خلال هذا الموقف، يُظهر الرفاعي توجهاً نقدياً حراً يجمع بين احترام التراث والتجديد الفكري، مما يمنحه القدرة على انتقاء ما يناسب العصر الحالي من دون أن يكون أسيراً لأيِّ اتجاه فكري محدد.
كما ينتقد الرفاعي التصوّف الذي يغرق في ممارسات متطرفة من الزهد والتقشّف. ويرى أنَّ التصوف يجب أن يكون أداة لفتح الأفق الروحي والفكري، وليس لإغلاقه. يرى الرفاعي في نقده للتصوف الطرقي: "أكثر أنماط التربية الروحيَّة في التصوّف تتنكّرُ للطبيعة الإنسانيَّة، فتسرف في ترويضِ الجسد، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض يكون الجسدُ فيها ضحيةَ الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، وممارسةِ بعض التمارين القاسية العنيفة لترويض الإنسان.
هذه الأساليبُ من أهمّ أركان تربية السالك لدى أغلب الطرق الصوفيَّة. لا يطيقُ الإنسانُ التقشّفَ الشديد والتنازلَ عن معظم الاحتياجات الأساسية للجسد، ولا يتحمّل الإكراهَ القسري لطبيعته على ما لا تُطيقُه. التنكّرُ لهذه الاحتياجات أحدُ منزلقات التربية لدى كثيرٍ من المتصوّفة والرهبان في كلِّ الأديان، وقد كانت وما زالت سبباً لانشطار شخصية بعض هؤلاء واضطراب سلوكهم. الارتياضُ العنيف الذي يتنكّر لاحتياجات الإنسان الجسديَّة والنفسيَّة والعاطفيَّة والعقليَّة، طالما فرضَ على المتصوّف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذات، وأحيانًا أنتج أمراضاً نفسيّة وأخلاقيّة مزمنة".
التصوّف بالنسبة للرفاعي سلاح ذو حدين، يتطلب من الباحث التعامل معه بيقظة ونقد، فهو مجموعة من الاجتهادات البشريَّة التي يجب النظر إليها بعين الفحص والتمحيص، من دون تقديس مفرط. يمثل تحليل الرفاعي للتصوف الفلسفي دعوةً لإعادة اكتشاف التراث الصوفي بمنهجيّة نقديّة واعية. من خلال هذا النهج، يتمكّن الباحث من استخراج القيم الروحيّة والأخلاقيّة والجماليّة التي يمكن أن تُثري الفكر المعاصر.
إنَّ رؤية الرفاعي تعكس التوازن بين احترام التراث والانفتاح على النقد والتجديد، مما يتيح مجالاً أوسع لفهم التصوف وتطبيقه في حياتنا اليوم. يقول الرفاعي: "تراثَ المتصوّفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالَمنا اليوم، لأنه كأيّ تراث آخر صنعه البشرُ ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوّن فيه، إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوال ذلك العصر ومختلفُ ملابساته وشجونه. وهو تراثٌ يتضمن كثيراً من المقولاتِ المناهِضة للعقل، والمفاهيمِ التي تعطّلُ إرادةَ الإنسان وتشلّ فاعليتَه، وتسلبه حريةَ العودة إلى عقله واستعمال تفكيره النقدي".
اكتشاف الطريق إلى الله
يتناول هذا النص موضوعاً عميقاً ومعقداً للرفاعي وهو محاولة الوصول إلى فهم شخصي وحقيقي لله بعيداً عن التفسيرات التقليدية والجماعية. يتضح من النص أن هذه الرحلة ليست سهلة أو مباشرة، بل هي مليئة بالتحديات والتناقضات. وهي رحلة فكرية وروحية للرفاعي في البحث عن الإله، والتي تمر عبر مراحل متعددة من محاولات الفهم والتفسير ضمن المذاهب الإسلامية المختلفة.
يصف الرفاعي محاولة البحث عن الله في (مدونات الكلام والفرق) ويجد الإله عقلانياً جافاً، مفرقاً بين الفرق المتناحرة. هذا الإله الجامد لا يستهوي الرفاعي، لأنه يفتقر إلى الحميمية والروحانية التي يبحث عنها. ينتهي برفض هذا الإله لأنه لا يحب الجمود.
وتظهر محاولته الثانية في (مدونات الفقه) حيث يتجلى الإله كسلطة متسلطة على حياة الناس. هذا الإله يبدو مستبداً، ويثير نفور الكاتب الذي يرفض التسلط والتحكم في حياة البشر، ويرى أن هذه الصورة للإله لا تتوافق مع رؤيته للرحمة والحرية.
أما في (التصوف الطرقي)، فيجد الرفاعي أن السالكين يتبعون تقاليد وممارسات ومسارات مفروضة عليهم ويخضعون لعبودية شيخهم. هذا النوع من التصوف يبدو خرافياً يصادر حرية المريد ويستعبده، مما دفعه إلى رفضه. الرفاعي يسعى للحرية في التجربة الروحيَّة بعيداً عن الخرافة والقيود المفروضة.
ويجد الرفاعي في أدبيات (الإسلام السياسي) إلهاً متعطشاً للسلطة والاستبداد، مما يذكره بالملوك الذين يفسدون البلاد عند دخولهم. هذا التصور للإله يعزز من رفضه لأي ارتباط بين الدين والسياسة الاستبداديَّة.
مفهوم الرحمة والإله الرحماني
بعد هذه المحاولات المتعددة، يصل الرفاعي إلى أن الله لا يمكن أن يوجد في المدونات أو الفهم الجماعي، بل هو تجربة شخصية وروحية عميقة داخل الروح. ويجد الله في ذاته، ويدرك أن الطريق إليه يمر عبر التجربة الروحية الذاتية والاتصال الشخصي بالإله. الرفاعي ليس طوباويا مثاليا، نجده يفكر بشكل واقعي، لذلك يرى ضرورة وجود عدالة بجوار الرحمة، فيقول: "لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليستْ بَدِيلًا عن العدالة في بناء أيّةِ جماعةٍ بشريَّة أو في بناءِ أيّة دولةٍ. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، ويفرضُ عيشُ الإنسان وتأمينُ متطلباته الحياتيَّة عليه الكدحَ والتنافسَ والصِّراع، والعدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دمويَّة وحروب عدوانيَّة. إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افتراضٌ غير واقعي، لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحققَ ما دام الإنسانُ إنساناً، لكن تظلّ الرحمةُ قيمةً إنسانيةً رفيعةً، تسمو بحياة الفردِ والجماعة".
يعد الرفاعي أنَّ الرحمة هي المفتاح الأساسي لفهم القرآن الكريم، يوضح أن القرآن يبرز الرحمة كمفهوم شامل ومهيمن على كل معانيه. ويستشهد بأنَّ البسملة التي تفتتح بها كل سورة تدل على هيمنة الرحمة على مضمون السورة. كما يرى أن إعادة تعريف الدين يجب أن تكون مبنية على الرحمة، وأن هذا الفهم يمكن أن يعيد للإنسان دينه بمعناه الروحي والأخلاقي والجمالي.
يقول الرفاعي: (رأيتُ الرحمةَ تمثل مفتاحَ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن، فقد اتخذت الرحمةُ فضاءً واسعًا في القرآنِ الكريم لم تتخذه في الكتابِ المقدّس وغيرِه من نصوص الأديان، إذ وردت بصيغٍ متنوّعة في القرآن تصرّح بشمولِها كلَّ شَيْءٍ وعدمِ خروجِ أي شَيْءٍ عنها، وهو ما تحدّثت به آياتٌ متعددةٌ، مثل: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» ، "كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» ، «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»)، ويسرد الآيات التي تتحدث عن الرحمة، ويعالج التعارض بينها وبين الآيات التي تدعو للعنف في القرآن في ضوء منهجه في التفسير، ويمكن التعرف على منهجه التفسيري بوضوح في الفصل الأول من كتاب: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، والفصل الرابع من كتاب: "الدين والكرامة الإنسانيَّة".
* كاتب وباحث سياسي