كلُّ أيديولوجيا فكرٌ والعكس غيرُ صحيح

آراء 2024/09/04
...

 أ.د عامر حسن فياض

 يدين مصطلح الأيديولوجيا بفضل نشأته إلى الفيلسوف الفرنسي (أنطوان دو تراسي)، الذي صاغه عام 1795م، واستخدمه للدلالة على (علم دراسة الأفكار التي تطور العقل البشري).وانتشر المصطلح بعد ذلك وتطور في اتجاهات متضادة كثيرة، بفضل إسهامات خطباء الثورة الفرنسية وغيرهم.
وما عانته الأيديولوجيا من العداوة، بعد أن قال عنها (نابليون بونابرت 1769- 1821م) إنها: حلم عابث، وإن الايديولوجيا صياد أحلام، ووصفها (كارل ماركس 1818- 1883م) بأنها: وعي كاذب، ووعي مقلوب، وعرفّها (ف. إ. لينين1870-1924م) بأنها الفكر الخاص بطبقة، ورأى عالم الاجتماع الروسي ثم الفرنسي (جورج غورفتش 1894 – 1965م) أنها: مسوغ مذهبي أو غير مذهبي لمواقف متخذة من قبل طبقة معينة.
وتمثل الأيديولوجيا بوصفها (علم الافكار)، نسقا فكريا يتعامل مع ظواهر معينة يُخضعها للدراسة، ويعكس في تعامله معها رغبات ومصالح واضعيه، وتنطوي الأيديولوجيا عادة على قدر ملحوظ من المبالغة في تقويم وإبراز تفسيرات وتفضيلات/ تحبيذات تعبر عن إرادة محددة، وتتمتع بأهمية استثنائية على الصعيد العملي، لذلك، يميل بعض الباحثين إلى وصف الأيديولوجيا بأنها فكر تكون الممارسة العملية هي غايته الاساسية، لأنه فكر يسعى إلى خلق وتحريك شعور ورغبات عند جماعة ما لتأييد هذه الممارسة والعمل من
أجلها.
وتعود الصلة بين الفكر والأيديولوجيا إلى أن الاخيرة هي فكر ايضا لكنها (فكر تحول إلى رغبة)، أي أن الأيديولوجيا فكر تم توظيفه، لأغراض عملية وبطريقة تقترن فيها النزعتان التفضيلية والغائية، وبذلك، فإن الأيديولوجيا، وإن لم تكن ذات طبيعة شخصية ذاتية فهي تعكس تمثلا جماعيا متحيزا وتفضيليا بقدر ما هو ايضا تمثل غائي هادف، فالنازية، كأيديولوجيا تفضل العرق وتستهدف تحقيق السيادة للعرق الآري على غيره من الأعراق، والماركسية كأيديولوجيا تفضل الطبقات الاجتماعية، وتستهدف تحقيق السيادة للطبقة العاملة على غيرها من الطبقات. وإذا كانت الأيديولوجيا لا تعتمد دائما وفي كل الأحوال كلها على البحث والدراسة والتفسير، فإنها أيضا لا تفتقر إلى ذلك دائما وفي الاحوال كلها، فقد تكون هكذا مرة وهكذا مرة أخرى، وبين بين في حالات اخرى لكنها في الغالب تستهدف خلق شعور وحماس جماعيين، يحركهما السعي لتحقيق أهداف تلك الأيديولوجيا والاستعداد لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف. ولعل قوة الأيديولوجيا تكمن في الشعور والحماس الجمعيين، اللذين تسعى لخلقهما وتحريكهما في ميدان الممارسة، لتكون بذلك المصطلح الأقرب في دلالته إلى مصطلح المذهب بحكم ما يتميز به كلاهما من طابع عملي، واستناد إلى أحكام قيمية معيارية، واستهداف ممارسة انشطة عملية تطبيقية، ترمي إلى المحافظة على الواقع أو تغييره وإعادة تشكيله، وفقاً للأحكام القيمية المعيارية التي انطلقت منها.
بيد أن الايديولوجيا وإن كانت تشترك مع الفكر في طابعهما التأملي العقلي، لكنها تختلف وتتميز عن الفكر في أنها تأمل عقلي مكرس بشكل أول وأساس للاعتبارات العملية التعبوية.
وعلى الرغم من الشرعية، بل وضرورة المقارنة والتمييز بين الفكر والمفاهيم المقاربة له مثل الايديولوجيا، النظرية، الفلسفة والمذهب فإن الحدود الفاصلة بينه وبين هذه المفاهيم ليست حادة، ولا حتى دقيقة ولا واضحة تماما، وهو ما يجعل منها مفاهيم متقاربة وحتى متناظرة، والعلة الأولى والأساس في ذلك أنها جميعا تدخل في إطار الفكر، وتقع ضمن حدوده وتمثل شكلا من أشكاله بحكم اشتراكها كلها معه في كونها تأملات عقلية مجردة، وإن كان بعضها مميزا عن غيره منها بفعل مستوى تنظيمه أو فرضياته أو مدى توجهه إلى العقل الجمعي وصلته بالممارسة والغائية العملية. وإذ يعني ذلك أن النظرية والمذهب والفلسفة والأيديولوجيا أشكال وأنواع مختلفة من الفكر، وأنها كلها تدخل ضمن اهتماماته، فسيكون بالإمكان القول باتفاق هذه المفاهيم كلها في النهاية على الدلالة على نشاط تأملي عقلي مجرد واشتراكها كلها في الاهتمام بالظاهرة المجتمعية الانسانية. وبفعل هذين العنصرين (عنصر التأمل العقلي المجرد وعنصر الاهتمام بالظاهرة المجتمعية الانسانية)، تقترب هذه المفاهيم من مفهوم الفكر، ما يتيح للأخير فرصة احتضانها جميعا لتكون اجزاء منه.
بمعنى أدق أن كل ايديولوجيا هي فكر، وأن كل فكر هو ليس ايديولوجيا فقط، بل هو أيضا نظريات وفلسفات
ومذاهب.