الراوي والمرويّ عليه في قصة الزير سالم

ثقافة 2024/09/04
...

سلوى عباس

تُعدّ السيرة الشعبية من أكثر الأشكال التعبيرية في الأدب الشعبي انفتاحاً على بقية أشكال التعبير سواء النثرية أو الشعرية، كما تعد من أكثرها توظيفاً لها، إذ يمتزج في السيرة عالم الحقيقة وعالم الخيال امتزاجاً شديداً بحيث يصعب الفصل بينهما، والسيرة الشعبية تمثّل عالماً إبداعياً فسيحاً، بسبب ما امتلكته من خصوصيّات ومزايا فنية وشكلية ومضمونية سهّلت لها استقطاب العديد من الأشكال الفنيّة والأدبيّة في حركة تناغم وتفاعل سلسة مرنة لا يمكن فهم فوارقها ومزاياها إلا من خلال النظرة المتفحّصة الناقدة والدقيقة.

وقد عُني العرب منذ القدم بسيرة “الزير سالم”، متخذين من حرب البسوس التي اشتعلت نارها بين قبيلتي “تغلب وبكر” مادة دسمة لجلسات السمر والسهر وحكايات الأجداد، تلك السيرة الشعبية التي كانت محور اجتماعات المقاهي منذ القديم، ومادة جوهرية في حكايات الحكواتي الذي كان يقدم تلك السير بأسلوب حكائي مشوّق يشد الحاضرين إليه، ومن إحدى ميزات الزير كبطل تراجيدي تطرّفه الذي جعله لا يعرف الاعتدال بشيء ولقبه بـ”المهلهل” أتى من خروجه على المألوف.
فجأة هذه الشخصية المسلوبة من ذاتها ومن واقعها، ترى نفسها أمام ظروف مختلفة حيث تحوّل “الزير” من شخص مهمل لشؤون الحياة وغير مهتم بشيء، إلى شخص تقع على عاتقه مسؤوليات كبيرة حمّلَه أعباءها مقتل أخيه “كليب” من قبل “جساس” الذي تمثّلت شخصيته بطابع الشر بالنسبة للمتلقي، وهنا تتجلّى ظاهرة الثأر كسبب رئيس ومباشر لقيام الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب، وما يظهر من أحداث خلال جولات الحرب التي قامت بين القبيلتين يبيّن كم كانت هذه الأحداث تبحث عن مصداقيتها التاريخية، وهنا يطرح السؤال نفسه علينا: لماذا كان “الزير” يقاتل في حرب تدوم أربعين عاماً ولا يقتل “جساساً”؟ لتؤكد لنا الأحداث في ما بعد أنه لم يكن في أعماقه يريد قتله، وإنما نمت في داخله رغبة القتل والانتقام من واقع مضى كان “الزير” فيه شخصية مهزومة أمام سطوة أخيه “كليب”.
في كتاب “السيرة الشعبية في قصة الزير سالم بين الراوي والمروي عليه “للدكتور منذر حسن شباني الصادر عن دار “كنعان” بدمشق يتناول المؤلف مفهوم السيرة الشعبية في قصة الزير سالم ضمن فضاءات النقد المتعددة، كما يقدم السيرة الشعبية بوصفها تأليف المروي عليه بقدر ما هي من تأليف الراوي، وبقدر ما هي أيضا حكاية حقيقية جرت في التاريخ، وفي هذا الخصوص فإنَّ طابع الأدب التراثي إنما يهدف إلى البحث عن اليقين التخيلي أكثر من البحث عن اليقين التاريخي.
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول وخاتمة جاء الفصل الأول بعنوان: “الراوي وأسطرة الواقع في الحكاية الشعبية” وتضمن ثلاثة محاور تناول المحور الأول “البروتوكولات السردية أو الواقع المحكي”، حيث ينبش المؤلف في ذاكرة التاريخ عبر سبره العوالم السردية للحكاية ضمن علاقة الواقع بالخيال بكل ما تمتلكه هذه العلاقة من محاولة لتحقيق اليقين الخيالي، وأهمية وظيفة خلق الشخصيات لأنَّ الراوي والمروي عليه ينشدان حضور التخيل السردي هرباً من الواقع، فالراوي على الرغم من أنه يؤكد الطابع الواقعي لقصة الزير نجده يتحول إلى مؤرخ يحاول أن يبحث في أخبار العرب والقبائل، ليس فقط لكي يعطي الزير وجوداً تاريخياً ونسباً قومياً، ولكن لكي يؤكد للمروي عليه أنَّ قصة الزير هي قصة خيالية بقدر ماهي واقعية وتاريخية حدثت في التاريخ، مما يعني أنَّ المروي عليه يشارك الراوي في إنتاج الإطار السردي للقصة، وهذه إحدى خصائص المروي عليه الرئيسة التي تجعله عنصراً أساسياً من عناصر عملية الحكي والقص.
المحور الثاني جاء بعنوان “ميثولوجيا الحدث الحكائي”، فتحول قصة الزير من الشفاهي إلى الكتابي هو ما يأخذنا نحو الحديث عن ميثولوجيا الحدث الحكائي، فالراوي في قصة الزير يعبّر عن الروح الشعبية، وبقدر ما ينطوي الأدب الشعبي على كم هائل من الميثولوجيا الشعبية، فإنه أيضاً ينطوي على كم هائل من الصدق الحكائي، وهو صدق يتم التعبير عنه بالكلمات، إذ إنَّ هناك من الباحثين من رأى أنَّ الفرق بين الأدب الشعبي والأدب الفني، أنَّ الأول ينبع من الروح الشاعرة الجماعية، في حين أنَّ الأدب الفني ينبع من روح الفرد الشاعرة، ولهذا فإنَّ الأدب الفني يُعرف مؤلفه، أما الأدب الشعبي فلا يُعرف له مؤلف لأنه حصيلة الجماعة.
في محور “الواقع التفاوضي بين السرد القصصي والسرد التاريخي” يتساءل المؤلف عن تحديد طبيعة قصة الزير، وفيما إذا كانت تنتمي إلى السرد التاريخي أو إلى السرد القصصي، اللذين يختلفان عن بعضهما البعض من حيث أنَّ السرد القصصي يعتمد على الخيال والابتكار، بينما يعتمد السرد التاريخي على الادعاء بالصدق والمطابقة مع الخارج.
وتحت عنوان: “ملحمة الملك اليماني (في مفهوم توقع المروي عليه)- تناقضات تأويلية ودلالية” يشير المؤلف إلى أنَّ ملحمة الملك اليماني بتناقضاتها الدلالية في ما يخص شخصية هذا الملك وموقعها في الحدث الحكائي قد مثلّت لحظة حاسمة في سيرورة السرد، خصوصاً في ما يتعلق باستجابة المروي عليه وتوقعاته التي لم تعد ممكنة، سوى على صعيد الإشارات النصية.
الفصل الثاني من الكتاب حمل عنوان: “الحكاية الإطارية الشعبية بين الراوي والمروي عليه” وتناول الكاتب في محوره الأول “الحكاية الإطارية وبنية السرد في قصة الزير”، إذ يمكن أن نلاحظ قصة “الزير سالم” بوصفها نمطاً حكائياً تراثياً تفصح عن بنية سردية ذات مستويات بنائية. وفي محور “الحكاية الإطارية والمصير المؤجل (مصير الراوي ومصير السرد)” يرى الكاتب أنَّ تنظيم المرويات بين الراوي والمروي عليه يحضر بقوة في مصير الزير، هذا المصير الذي يبدو مرتبطاً أشد الارتباط بمصير السرد، وأما التناسل الحكائي فيبدو أمراً لابد منه من أجل استمرار عملية الحكي.
أما في محور “عملية الحكي بين الراوي والمروي عليه” فتقوم من خلال التزام حكائي، بما يمكن أن نسميه العوالم الحكائية الممكنة، فالحكاية هي عالم الممكن ورسم مصير الشخصيات، والراوي قادر على خلق شخصيات متعددة.
في محور “الزير المحكي ونمط المروي عليه” نرى أنَّ قصة “الزير” منذ بدايتها حتى تصاعد الحدث الحكائي عند وصول العجوز أخت الملك “التبع اليماني” إلى مضارب بني مُرّة ولقائها مع “جسّاس” ومحاولتها بث الفتنة بينه وبين أبناء عمه، كان الراوي في كل الأحداث التي رواها قد قدّم شخصية الزير بطابعها الخرافي والواقعي معاً.
الفصل الثالث من الكتاب حمل عنوان: “المروي عليه والبناء السردي الحكائي” ويتضمن ثلاثة محاور هي:
“المروي عليه وإنتاج البطل (الزير) في الحكاية الشعبية” إذ إنَّ الاستلزام التحادثي الذي يفصح عن بنى حكائية، يهدف إلى إظهار فعل الحكي الذي أخذ يتسارع بعد مقتل كليب من أجل ولادة البطل الشعبي وهو الزير هنا، هذا بالإضافة إلى إيجاد تلاؤم حكائي مع المروي عليه.
المحور الثاني يتناول “الشخوص في قصة الزير والتأسيس لرواية الأصوات (المنولوج)” حيث تحتل الشخصية الحكائية في البحث عن البنى السردية في القصة والرواية والمسرحية بشكل عام، دوراً مهماً لأنَّ الشخصية هي أحد مكونات العمل الحكائي من حيث أنها تظهر بوصفها عنصراً حيوياً يقوم بالأعمال والأفعال الحكائية، ومن الملاحظ أنَّ الزير في شعره يمثل نمطاً مهماً من أنماط رواية الأصوات.
أما في محور “السرد ومستويات اللغة” فإنَّ قصة الزير تنطوي على شكلين من اللغة هما: اللغة العامية واللغة الفصحى، والبحث في طبيعة اللغة التي يستخدمها الراوي في القصة يتطلب البحث في بنية الراوي وبنية المروي عليه، فالراوي لا يستخدم لغة عربية فصيحة على امتداد القصة بل أنَّ اللغة التي يستخدمها هي خليط بين العامية والفصحى.
وفي محور “زمن القص وزمن السرد” تبدو جدلية زمن الحكاية وزمن السرد واضحة في قصة “الزير”، ولكن هذه الجدلية هنا تعود إلى جدلية الراوي والمروي عليه، وأهمية المدة الزمنية في عملية الحكي لا يمكن قياسها على نحو دقيق، لكن يمكن تبيّن وظيفتها الزمنية وما تخدمه في عملية الحكي، فيكون زمن السرد في قصة الزير هو الزمن الحاسم بين كل من الراوي والمروي عليه.
ويختم المؤلف كتابه بخلاصة تفيد بأنَّ السيرة الشعبية تنصاع للمروي عليه وخصائصه أكثر مما تنصاع للراوي وما يقصده وما يريده، وعلى هذا النحو فإنَّ دراسة المروي عليه دراسة نقدية قد تفيد في إعادة قراءة السير الشعبية في ضوء المروي عليه، إذ إنَّ هذا الاهتمام بخصائص المروي عليه قد يفيد في الكشف عن خصائص السرد في السيرة الشعبية واختلافه عنه في أشكال الأدب الأخرى من الرواية والشعر والمسرح.