أحمد الشطري
شكّلت مقدّمات الدواوين والبيانات الشعرية ظاهرة لافتة للنظر منذ مطلع القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، تماهياً مع ظهور الصراعات الإيديولوجية والمدارس النقدية، كتعبير عن تبني وجهات نظر معينة، تمثل سمة أسلوبية وفنية وفكرية لنتاج ذلك الشاعر أو تلك الجماعة الشعرية،
وفي محاضرة عبر منصة الزوم في 4/ 8/ 2024 باستضافة من الصالون الثقافي العراقي في لوس أنجلس. قدّم لنا الناقد العراقي البارز الدكتور حاتم الصكر عرضاً لأهم البيانات الشعرية والمقدمات عبر قراءة تحليلية موضوعية معمقة، اتسمت بسعة في الرؤية والوضوح في الطرح كاشفاً عن أهم ما يميز تلك المقدمات والبيانات ودواعي كتابتها، واستضاءة بما جاء في تلك المحاضرة نقدم هنا رؤيتنا لما يتعلق بمقدمات الشعراء لدواوينهم والتي كانت فعلاً شائعاً اعتمده كثير من الشعراء في القرن المنصرم، توضيحاً لرؤيتهم للشعر، أو ترويجاً لها، أو بياناً لالتزامهم نهجاً أو مساراً معيناً.
وقد تمثل هذه المقدمات بيانات فردية يطمح الشاعر إلى إشاعتها وتحشيد التأييد لها، كما في مقدمة نازك الملائكة لديوانها (شظايا ورماد) الصادر عام 1949م. أو مقدمة السياب لديوانه (أساطير) الصادر عام 1950م. أو غير ذلك من المقدمات، التي كانت بمثابة إعلان عن ولادة نوع جديد، أو خرق لقاعدة شعرية مترسخة، وهو ما تمثل بالدعوة إلى الثورة على سيمترية العروض ووحدة القافية، وظهور ما سمي بـ(الشعر الحر) أو بـ(قصيدة التفعيلة) في ما بعد. بينما نجد أنَّ هناك مقدمات تقدم رؤية لما تنطوي عليه قصائد المجموعة الشعرية من حيث الأسلوب والبناء الفني والمضمرات الرمزية والفكرية تأثراً بالمدارس النقدية التي ظهرت خلال العقود الأولى من القرن العشرين أو رفضاً لها، ومثال على ذلك ما جاء في مقدمة الشاعر إلياس أبو شبكة لديوانه (أفاعي الفردوس) إذ يقول: “قد يعمد بعض هواة النظريات إلى تحديد الشعر بالطريقة الفلسفية، وفي هذا دليل على شك هذا البعض في الشعر نفسه؛ في جوهر الحياة؛ فالمرء لا يلزم جانب التفلسف إلا عندما يخالجه الشك، مزعزع الاعتقاد بمطابقة المدارك الحسية لحقيقة الأشياء المدركة.”
ولم تكن تلك المقدمات موجهاً قرائياً فحسب- كما نرى- بل هي محاولات توجيهية وهيمنة مقصودة، أو عفوية تهدف إلى قيادة المتلقي وزرع افتراضات معينة في ذهنه قد تكون موجودة أو غير موجودة في النصوص، أو ليست موظفة بالشكل الذي يمكن أن يجعل منها قيمة فنية وجمالية لتلك النصوص.
ولعل هذا ما نجده في المقدمة التي وضعها السياب لمطولته (فجر السلام) إذ نراه يعمل على تحديد الأبيات، أو بيان طريقة توزيع المقاطع وما تعنيه، أو ما تحمله من خطاب فيقول: “والآن أود إلقاء بعض الأضواء على أجزاء هذه القصيدة لأكون قد أديت الرسالة كاملة على أتم وجوهها:
فالمقطع الأول (لا شهوة الموت... فدولار) يتحدث عن يد الشعوب هذه اليد الخيرة... والمقاطع القصيرة التالية واضحة لا تحتاج إلى شرح...” إلى آخر ما جاء في هذه المقدمة من توضيحات لما انطوت عليه القصيدة من خطاب.
وكما نلاحظ فإنَّ السياب يقود القارئ إلى حيث يريد هو ولا يدعه يكتشف الأشياء أو المقاصد بذاته، وهذا الفعل ناتج عن أحد أمرين: إما أن يكون الشاعر غير واثق من أنه استوعب موضوعه وقدمه إلى المتلقي بالشكل الذي يطمح إليه، أو أنه غير واثق من قدرة المتلقي على فهم أفكاره واستيعاب ما يتضمنه نصه من معان وقيم، وكلا الأمرين ينطوي على سوء ظن إما بالمتلقي أو بأدوات الشاعر وقدراته التعبيرية.
وفي ديوان (الأرجوحة هادئة الحبال) كتب الشاعر حسين مردان مقدمة دعا فيها إلى الاستغناء عن الوزن قائلاً: “وبالنسبة للوزن فهو حبل قصير جداً لا يصل إلى القاع لذلك لابد من الاستغناء عنه والسقوط إلى الأعماق لنفرك التراب اللزج في القاع فتشع المعادن الكامنة فيه...”، في حين أنَّ كل قصائد الديوان تلتزم الوزن، وكان من المفترض أن تأتي هذه المقدمة مشفوعة بما يلائمها من تطبيق، وكأنَّ الشاعر هنا يخبرنا ضمناً أنَّ قصائد ديوانه هذا هي بعيدة عن (القاع) ولم تلامس (المعادن المشعة) في أعماقه، ومن ثم فإنَّ هذه المقدمة يمكن أن تكون عامل تنفير وليست عامل جذب كما يفترض.
ثم يضع في آخر الديوان دعوة إلى اتباعه في طريقة استخدام بعض الكلمات العامية في الشعر و”ذبح الكلمات الفصحى المريضة لتحل مكانها الكلمات العامية التي تحمل صفات الحياة النابضة”.
ودعوة مردان هذه ليست بالجديدة فنحن نعرف أنها قد سُبقت بالكثير من التجارب في استخدام المفردات العامية في الشعر الفصيح كما فعل السياب ونزار وغيرهم.
وعلى الرغم من أهمية العديد من المقدمات التي جاءت محملة بأفكار ورؤى تنظيرية مهمة، وهي ليست مما يعد موجهاً قرائياً للنصوص، وإنما تحمل فكرة عامة أو دعوة إلى تبنّي مسار أو وجهة تجريبية؛ لخلق نوع من المغايرة أو التحديث في القصيدة، نجد أنَّ هناك كثيراً من تلك المقدمات قد اتخذت شكلاً آخر يهدف إلى توجيه القارئ نحو افتراضات محددة وهو ما يمكن أن يكون- كما أرى- نوعاً من الخداع أو التخادع بين المنشئ والمتلقي العام على أقل تقدير، استناداً إلى ما يمتلكه الشاعر من قوة تأثير يمكن أن ينخدع بها ذلك المتلقي، سواء أكانت تلك الافتراضات موجودة في النص- كما أشرنا- أم غير موجودة، وقد يكون نوعاً من النرجسية المتأتية من فرضية أنَّ المتلقي غير قادر على كشف خبايا النص بذاته.