أثلاثُ الفتى گلگامش
شاكر الغزي
يوصف گلگامش في اللوح الأول من الملحمة بعبارة: (ثلثان منه إله، وثلثه (الباقي) بشر، وكلمة (الباقي) من إضافات الشُرّاح؛ فتُوضع بين قوسين. ولم يذكرها د.نائل حنّون في ترجمته للملحمة: (ثلثاه إلهُ، ثلثه بشر).
فُهمت هذه العبارة على أنّ گلگامش نصف إله ونصف بشر؛ لأنَّ أباه رجل اسمه لوگال بندا، وأمّه إلهة اسمها نِنسون. وقيل أنّه يمتلك قوة بشرية خارقة بسبب كونه نصف إله!. وإلى عهد قريب كان يُنظر إلى گلگامش على أنه شخصية أسطورية؛ حتّى اكتشاف لائحة أَثبات الملوك السومريين التي ورد فيها ذكر گلگامش كملك حقيقي في سلالة أوروك الأولى.
ولكنَّ الغريب هو أنّ الملحمة صريحة الدلالة في الحديث عن ثلاثة أثلاث، في حين أنّ الشرّاح يتحدّثون عن نصفين: إله وبشر!. ويزداد استغرابي حين افترض هؤلاء أنّ گلگامش محكوم عليه بالموت؛ فقط لأنّ فيه ثلثٌ بشري! ولا أعرف وفق أيّ مسوّغ حكموا بالغلبة لثلث بشريّ على ثلثيين إلهيين؟.
وأوّل من فتح أعيننا على أنّ هذه العبارة هي مجاز أدبيّ له دلالة فلسفية عميقة تتعلَّق بتقسيم الإنسان عموماً ــ متجسّداً في گلگامش بوصفه الأنموذج البشريّ الطامح إلى الكمالات والترقّي ــ إلى ثلاثة أثلاث، هو المفكّر الراحل عالم سبيط النيليّ في كتابه المثير للجدل (ملحمة گلگامش والنصّ القرآنيّ).
كلُّ إنسان، إذن، هو بثلاثة أثلاث، ثلثان منهنّ هبتان إلهيتان، يمكن أن يترقّى بهما إلى المصافّ العليا، ويمكن أن يُشوّههما وينحدر إلى أسفل سافلين. والذي أَبعد هذا التقسيم عن الأذهان هو اعتيادنا ــ حدّ الهيمنة ــ على تقسيمات الثنائيات الضدّية، حتّى باتت التقسيمات الثلاثية غير مألوفة لدينا.
وقد دُرج على تقسيم الإنسان إلى ثنائية (الروح والبدن)، والروح بلا شكّ هي جزء الإنسان الإلهيّ بدليل قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي)، أمّا البدن فهو الجزء الماديّ الأرضيّ، وهو وعاء الخطايا والشهوات، وهو ــ أيضاً ــ مادة الفناء والموت؛ ولو قُدّر لهذا البدن أن يستعصي على الهرم والانهيار لخَلُد الإنسان!.
غير أنّ هذا التقسيم ليس دقيقاً بحسب النيليّ، فالإنسان هو ذات شاعرة بوجودها وهي (النفس)، والتي تتألّف من جوهر الذات (القلب) وأداتها التي تُفكّر بها (العقل)، وهما يقومان بالعنصر الثالث (البدن)، وبالتالي فأثلاث الإنسان عنده: (القلب، العقل، البدن).
والقلب ــ بحسب النيليّ ــ هو الذات الآمرة، وبالتالي لكي يفكّر العقل بحيادية وموضوعية تامّة؛ فلا بُدّ من تخليصه من ربقة الذات الآمرة، ولا يتحقّق ذلك إلا بتخلُّص القلب من الأمراض والعلل التي يُمكن أن يعاني منها!.
ويكون المعنى الفلسفيّ وراء وصف گلگامش بأنَّ ثلثاه إله وثلثه بشر، هو أنّ ثلثي النفس (القلب، والعقل) إذا تخلّصا من الأمراض والعلل النفسية خلُصا وصارا إلهيين تماماً، فلا يتبّقى في الإنسان جزءٌ بشريّ سوى بدنه الماديّ الأرضيّ.
واقترح النيليّ أنّ الترجمة الصحيحة لهذه الصفة أو النسبة هي: ثلثاه إلهيٌّ. وعنده أنّ هذا الوصف يمكن أن ينطبق على الأنبياء والأولياء الذي أخلصوا ذواتهم من العلل النفسية من خلال تساميهم وترفّعهم عن الحياة الدنيا (عشتار)، وسعيهم الدؤوب إلى الحياة الأبدية (الخلود)، وهذا ما فعله گلگامش الذي وُصف بالحكيم؛ حيث الحكمة هي حصيلة التسامي وتحرّر العقل.
ولعلّ النيليّ حين اقترح ترجمته هذه، انطلق من فهمه الصحيح وتحليله للنصّ لا غير، ولا شكّ عندي أنه لم يطلع على ترجمة الملحمة التي أصدرها عن الألمانية المترجم المصري عبدالغفار مكاوي عام 1994، حيث جاءت العبارة في ترجمته: (ثلثاه إلهيّ، والثلث (الباقي) بشريّ!.
وإنْ كنت أتفق مع النيليّ في فهمه الجديد هذا، إلّا أنّني أختلف معه في تعيين الأثلاث المذكور؛ فالنفس ليست سوى الجسد وملذّاته، أو قل إنّ النفس لها صورتان متراكبتان، صورة مادية، وهي البدن (الجسد)، وصورة معنوية وهي الغرائز والشهوات (ملذّات الجسد)، وكلّ متع ورغبات النفس البشرية لا يمكن تحقيقها، والتلذّذ بها، إلّا من خلال الجسد المادي ومستشعراته.
والنفس ــ من وجهة نظري ــ هي المرادف للحياة والعيش، ولا أراها مشتقّةً إلّا من النَفَس الذي هو دليل الحياة؛ ولذلك فإنّ نقيض الحياة، الذي هو الموت، لا يقع إلّا على النفس، فهي التي تموت! (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت).
والنفس هي الجزء الذي يتشاركه الإنسان مع سائر الحيوانات الأخرى، بل والكائنات الحية؛ فالنباتات ــ كما أعتقد ــ هي الأخرى تتنفّس وتموت.
وهذا المعنى هو الأصل الذي ردَّ إليه ابن فارس في معجم مقاييس اللغة كلمة (نفس)، فقال: النون والفاء والسين أصلٌ واحد يدلُّ على خروج النسيم، كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعه، ومنه التنفُّس: خروج النسيم من الجوف. ويُضيف: والنَّفْسُ قِوامُها بالنَّفَس.
وللنفس مظهر آخر في الإنسان والحيوان، وهو سيلان الدم؛ ولذلك عُبّر عن الدم بالنفس السائلة. يقول ابن فارس: والنَّفْسُ الدم، وهو صحيح، وذلك أنّه إذا فُقد الدم من بدن الإنسان فقد نَفْسَه، والحائض تُسمّى النُّفَساء لخروج دمها.
وليس هذا المعنى ـــ في تصورّي ـــ ببعيدٍ عن الأوّل! وإنْ لم يلتفت إليه العرب الأوائل، بل لعلّهم لم يذكروه لتعارفه بينهم. فثمّة علاقة وطيدة بين عملية التنفُّس والدم؛ حيث أنّ كُريّات الدم الصغيرة هي التي تقوم بعملية تنفُّس الجسم! إذ توزّع على كلّ أنحاءه الهواء (النفَس) القادم من الشهيق، وتأخذ منها السموم والفضلات الخارجة مع الزفير.
وهذا المعنى تحديداً هو ما أوحى إلى الشعراء ــ وإن بعد انزياحات أو تراكمات ثقافية ــ باستعارته للدمع، ولا سيما عند توديع الأحبة، كقول مجنون ليلى:
وليس الذي يجري من العينِ ماؤها ولكنّهـا نفـسٌ تـذوبُ... وتـقـطــرُ
فالدمع السائل هنا، هو دليل الحياة، وليس الدم السائل، وسبب الموت ليس أن يقطر الدم، بل الدمعُ حتّى آخر قطرةٍ تنتهي معها النفس!.
وهذا المعنى ــ أعني أنّ النفس ترادف الحياة والعيش والتنفّس ــ نجده في اللغتين السومرية والأكادية، فكلمة زي (zi) السومرية تعني: الحياة، الحيّ، العيش، التنفُّس، نفَسُ الحياة، النفْس. ومن ذلك: (zi- gal) أي الكائنات الحية. وكلمة (napishtu) الأكادية تعني: النَفْس، الحياة، النفَس. وهي تطابق الكلمة العربية (نَفس) لفظاً ومعنى.
والرُّوح، كما قال ابن فارس، أصلٌ كبير مطّرد، يدلُّ على سعَة وفُسحة واطّراد، وأصل ذلك كلّه الرِّيح، وأصل الياء في الريح الواو، وإنّما قلّبت ياءً لكسرة ما قبلها، فالرُّوح روح الإنسان، وإنما هو مشتقّ من الريح، وكذلك الباب كلّه.
وهذا يعني أنَّ الروح أصلها من النفخة (الريح) التي نفخها الله في آدم، (ونفخت فيه من روحي)، وإنْ حملتْ هذه النفخة في طيّاتها المعارف التي بها يكون الإنسان إنساناً ويترقّى في سلّم الكائنات الحيّة؛ حتّى باتت الروح في معناها مرادفاً للمعرفة الإنسانية (نظرية المعرفة)، ويقتضي هذا الفهم أن ليس في الكائنات ما له روح سوى الإنسان، وربّما يلحق به الجنّ، إذا صحّ أنّ الروح هي مدار التكليف الإلهيّ.
والمعرفة الإنسانية (الرُّوح)، لها أداتان:
1 - أداة الإنتاج.
2 - أداة الإخراج.
وأداة الإنتاج هي (العقل) حيث تُنتج المعرفة من خلال عمليات (التفكير) التي هي ربط الأوليات: المُدخَلات أو المقدّمات، مع بعضها لاستخلاص النتائج. وعمليات (التكثير) التي هي استمرارٌ لعمليات التفكير من خلال ربط النتائج المستخلصة لإنتاج معرفة جديدة.
وأداة الإخراج هي (اللسان)؛ ولذلك سُمّي العلم الآليّ الذي يُعنى بقواعد التفكير السليم (المُنتِج): علم المنطق، اشتقاقاً من النطق؛ لأنَّ التكلُّم هو أجلى مظاهر المعرفة والفكر، ومنه قيل في تعريف الإنسان بأنّه حيوان ناطق، أي: كائن حيّ متكلِّم (مفكّر)، ومنه أيضاً، علم الكلام، الذي يُعنى بالنظر في المعتقد الدينيّ وإثبات صحّته بالأدلة والحجج والقياسات السليمة.
وأمّا القلب، بحسب ابن فارس، فله أصلان صحيحان، أحدهما يدلّ على خالص شيء وشريفه، والآخر يدل على ردّ شيء من جهةٍ إلى جهةٍ. فالأول قلب الإنسان وغيره سُمِّي لأنه أَخلصُ شيء فيه وأرفعه، وخالص كلّ شيء وأَشرفه قلبُه، والأصل الآخر قلبتُ الثوب قلباً.
وبهذا المعنى يكون القلب ــ إذا صلُح وخلُص ــ أشرف شيء في الإنسان وخلاصته. غير أنَّني لا أتفق مع ابن فارس في اشتقاق القلب من هذا المعنى الأول؛ بل هو من المعنى الثاني الذي هو قلْب الشيء من جهةٍ إلى جهة؛ فكثر ما وُصف القلْب بالتقلُّب، ومن ذلك قول النبيّ: لقلبُ ابن آدم أسرع انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً. وينسب إليه، أيضاً: إنما سُمِّي القلب من تَقَلُّبِه، إنّما مثَلُ القلب مثل ريشةٍ بالفلاة تعلَّقت في أصل شجرةٍ يُقلِّبها الريح ظهراً لبطن.
يقول القرطبي: القلْبُ في الأصل مصدر قلبْتُ الشيء أقلبه قَلْباً، إذا رددْتُه على بَداءته. ثُمَّ نُقِل هذا اللفظ فسُمِّي به هذا العضو، الذي هو أشرف الحيوان؛ لسرعة الخواطر إليه ولتردُّدها عليه، كما قيل:
ما سُمِّيَ القلْبُ... إلَّا من تَـقَـلُّــبِـــهِ فاحذر على القلْبِ من قَلْبٍ وتحويلِ
فالقلب بمثابة بيضة القُبَّان بين الإلهيّ والبشريّ في الإنسان بحسب تقلّبه ذات اليمين وذات الشمال، فإذا كان سليماً (من أتى الله بقلب سليم)؛ ترجّحت كفّة الروح والقلب؛ فيرقى الإنسان إلهياً سماوياً، وإذا كان مريضاً (الذي في قلبه مرضٌ)؛ ترجّحت كفّة النفس والقلب؛ فينحدر الإنسان بشرياً أرضياً.
إذن، فالقلب يتقلّب بين حالتين:
1 - القلب السليم.
2 - القلب المريض.
بقي أن نعرف ــ في الواقع ــ أيَّ شيء هو القلب في جوف الإنسان حيث يقول الله: (ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه)؟
ذهب د.محمد شحرور في (الكتاب والقرآن) إلى أنَّ القلب مشتقّ من المعنى الأول: خالص شيء وشريفه، وأنبل عضو في جسم الإنسان هو (المخّ)، وقلب المخّ، أو أنبل ما فيه، هو قشرته الخارجية التي هي مركز الفكر والإرادة. ومن طريف ما جاء به، أنّ (الفؤاد) هو وظيفة القلب، وليس هو القلب نفسه، مثلما أنّ السمع وظيفة الأذن والبصر وظيفة العين؛ وبالتالي فالفؤاد هو الإدراك المشخّص المعتمد على حاستي السمع والبصر مباشرة، وهو المقدّمات المادية للفكر الإنساني.
وعندي أنَّ تسمية القلب مشتقة من المعنى الثاني، لا الأول، وبالتالي لا معنى لكون القلب هو المخّ، ثمَّ من قال أنّ المخ هو أنبل وأشرف الأعضاء في الإنسان؟ هذا ليس بصحيح، أشرف ما في الإنسان العقل، وهو ليس عضواً بل جِماع عمليات التفكير والتدبّر، والذي قلنا أنّه أداة الإنتاج المعرفية، وعمليات التفكير والاستنتاج ليس شرطاً أن تقع في المخّ، بل تساهم فيها عدّة أعضاء منها المخّ، ومنها القلب، الذي هو ثاني أشرف ما في الإنسان، وعندنا أنّه هو مركز القرار والإرادة وليس العقل، بل على العكس فإنَّ مشاعر الحبّ والبغض والرأفة والرقّة التي ينسبونها إلى القلب عادةً، هي من ممارسات المخّ ووظائفه.
وأتّفق معه في أنّ الفؤاد ليس هو القلب، ولكنه ليس وظيفته كما قال، بل هو حالة من حالات القلب، والتي منها: الفقه، والعمى. وإنّ جاء في الشعر العربي مجازاً، أنّ الفؤاد معادل للقلب، كما في البيت لزُهير بن أبي سُلمى، ولغيره:
لسانُ الفَتَى نِصْفٌ ونصْفٌ فُـؤَادُهُ فلمْ يَبـْقَ إلّا صُـورَةُ اللَّـحْـمِ والــدَّمِ
وزهير هنا، يستخدم ذات التقسيم الثلاثيّ الذي أشارت له الملحمة؛ ولعلّ ذلك يشي برابطة قديمة بين المعلقات والملحمة، وقد يُوهم تكرار كلمة نصف مرتين بمغالطة أنّ التقسيم ثنائي؛ فاللسان هنا كما ذكرنا أنّه أداة إخراج المعرفة، أو هو تعبير عن الفكر والتعقّل (الروح)، والفؤاد هنا جاء به لأجل الضرورة كمعادل (للقلب)، وأما صورة اللحم والدم فهي (النفس)، بمعنى أنّ الإنسان إنما يكون إنساناً بروحه وقلبه، لا بنفسه، وهو تعبير بصيغة أخرى عمّا قالته الملحمة من أنّ گلگامش (الإنسان النموذجيّ) ثلثاه إلهيّ وثلثه بشريّ.
وإجابةً على سؤال: أيَّ شيء ــ في الواقع ــ هو القلب في جوف الإنسان؟
نقول: هو العضلة اللحمية التي في القفص الصدريّ، وإن كان المقصود ليس كتلة اللحم بذاتها وإنما ما رُكز فيها من أبجديات المعرفة الإلهية التي نسميّها الفطرة، وإدراكات حسيّة نُسميها الوِجدان، وما يعتريها من تقلبّات ومطامح ورغبات. وبمعنىً ما، فالقلب قد يُكافئ الإرادة والضمير (صبغة الله)، باعتبار أنَّ الضمير هو المؤشّر (الوازع) الذي يدلّ على سلامة القلب وعدم تلوّث الأبجديات الفلسفية للفطرة الأولى.
وفي كلام مهمّ للغزاليّ في (إحياء علوم الدين)، فالقلب يُطلق على شيئين:
- مُضْغَةُ اللحم الصنوبريّة الشكل التي تضخّ الدم، وهي موجودة للبهائم. وهذا هو ما يعرف بالقلب الجسمانيّ.
- لطيفةٌ ربّانية رُوحانية لها تَعلُّقٌ بالقلب الجسمانيّ.
والمعنى الثاني هو المراد، والقلب بهذا المعنى هو حقيقة الإنسان؛ فهو المدرك العارف، والمخاطب والمعاقب والمطالب. وبحسبه؛ فإنَّ جميع الحواسّ الظاهرة والباطنة أجناد مسخرّة للقلب، وهو المتصرّف فيها، وقد خُلقت مجبولةً على طاعة القلب لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرّداً! وهذا يدعم ما ذهبنا إليه من أنَّ القلب هو مركز الإرادة في الإنسان.
وإذا ما تحقَّق ذلك؛ نقول بأنّ أثلاث الإنسان عموماً، وگلگامش خصوصاً، بحسب فهمنا هي:
الرُّوح القَلْب النَّفْس
إلهيّ
بشريّ
سماويّ أرضيّ