من القصيدة الديوان إلى الومضة

ثقافة 2024/09/05
...

  أ.د سعد التميمي

لم تكن تجربة الشاعر عدنان الصائغ مع القصيدة القصيرة جدًا "الومضة" في ديوانه الأخير "ومضاتـ…كِ" جديدة، فقد خاض الصائغ هذه التجربة في تسعينات القرن الماضي، ففي ديوان "تحت سماء غريبة 1994" من بين أكثر من "120 قصيدة" نجد أكثر من "90 قصيدة" قصيرة جدا "ومضة" مثل قصائد البحر، المطر، الرحيل، قصائد قصيرة، تنويعات.

وفي ديوان "تكوينات 1996" الذي ضمَّ أكثر من "50 قصيدة" كان بينها أكثر من "30" قصيدة قصيرة جدًا وضعها الشاعر تحت عنوان تكوينات :5،6،7 . وفي ديوان " تأبط منفى 1996" الذي ضم أكثر من "120 قصيدة" كان منها أكثر من "80 قصيدة" قصيرة جدًا وضعها الصائغ تحت عنوان "تكوينات وتنويعات ورأس السنة". ويأتي الديوان الأخير "ومضاتـ.. كِ" ليشكل تحولًا في تجربة الشاعر بعد "نشيد أوروك" و "نرد النص" اللذين قدم فيهما القصيدة الديوان ذات الطابع الملحمي، التي تقوم على تفكيك السرديات الكبرى على مستوى الدلالة، والتجريب على مستوى الشكل واللغة والصورة والايقاع. ولما كانت الومضة تتسم بالايجاز والاقتصاد في الألفاظ والتراكيب من جهة والتكثيف والإيحاء بالمعنى والانفتاح على التأويل، ويجمع ذلك كله الوحدة العضوية والتفرد الخصوصية، فإنّ الصائغ ينجح من جديد، بتضافر اللغة والفكرة، في إحياء أو إعادة صياغة ما كتبه من قبل من قصائد كان يسمها قصيرة، واليوم يطلق عليها الومضة في ديوانه الجديد "ومضاتـ.. كِ".                                        

فالديوان يؤشر عودة من جديد الى القصيدة القصيرة جدًا "الومضة" فمن بين أكثر من "160 قصيرة" ضمها نجد أكثر من "120" قصيدة قصيرة جدًا، فهل استفد الشاعر تجربة القصيدة الملحميَّة الطويلة؟، أم أنّ طبيعة العصر تطلبت الايجاز والتكثيف؟، وقد يكون الشاعر كان يكتب النوعين من القصائد في ذات الوقت والدليل على ذلك تواريخ هذه القصائد القصيرة التي تتقاطع مع تاريخ كتابة "نرد النص" فضلًا عن أسلوب التجريب الذي انتهجه الشاعر في معظم دواوينه وبقي حاضرًا في هذا الديوان ومن ذلك شكل القصيدة واعتماد الخطوط المائلة والاشكال الهندسيَّة والمفردات الانكليزية مع بقاء القصديَّة في خلخلة كثيرًا من السرديات، وذلك لأنه لا يميل للسكون بل للحركة والتحول، وهذا ما صدح به في إحدى الومضات التي وضعها تحت عنوان رئيس بعنوان "كتاب القصيدة" ويختار لها حرف (ل) عنوانًا فرعيًا فيقول: "لا تسكن حتى بيتَ الشعر/ بيتك – يا شاعر- في اللا بيتْ/ فاحْرص واحْرزْ أنْ لا تركنَ أو تسكنَ في معنىً أو مبنىً/ أو صوتْ/ الهجعةُ موتْ".

فالصائغ يخاطب ذاته من خلال الأفعال الكلامية المباشرة بالنهي تارة "لا تسكن، لا تركن" وبالأمر "احرصْ، احرزْ" وهي دعوة للتحرر من البقاء في معنىً واحد والرغبة في البحث عن الجديد دائما في كتابة القصيدة، ويأتي النداء في الجملة الاعتراضية "يا شاعر" ليمثل رسالة تنبيهية ايمانًا منه بأن الشعر إذا هجع مات وفقد وهجه وغابت عنه الدهشة، لذا فهو يغامر في معالجة موضوعات الحرية والوجود مقدمًا صورًا شعرية مكثفة تتوزع في قوالب الحكمة تارة والمفارقة تارة أخرى، ساخرًا ومتهكمًا مرة ومتألمًا وحزينًا مرة أخرى، وتأتي المعالجات في إطار ثنائيات تحكمها علاقة جدليّة كما هو الحال في ثنائية الوطن والمنفى، فهو يؤكد أن الوطن لم يكن مرًّا طاردًا لكن المتسلطين على الشعوب جعلوه مرًّا، ورغم ذلك فهو لا يخفي حنينه للوطن إذ يقول في "كتاب الأرض" في ومضة جعلها تحت عنوان ( ل): "لمْ تكنْ مُرَّةً هذهِ الأرض/ لكنَّ مَنْ/ مرُّوا بها/ مَرَّروها".

فاللام هو أول حرف في القصيدة ويأتي تاريخ القصيدة عام 2013، والمكان الذي كتبت فيه شارع أبي نواس ليؤشرا قصدية الصائغ، فهو يرى أن الوطن جميل لكن المتسلطين على الشعوب هم من ينشرون فيه الخراب، فهذه الومضة تحمل دلالات وإشارات للواقع والحزن والألم لما حل بالوطن. ورغبة في رفض الحرب ودعوته للحب، فإنّه يعبر عن جدلية الحب والحرب بطريقة مختلفة وغير مألوفة في ومضة يختار لها حرف الراء المسبوق بنقطتين (.. ر) عنوانًا ينتمي الى عنوان رئيس "كتاب اللغة" الذي ضم عدة ومضات، ويشتغل الصائغ في هذه الومضة على النقلة الدلالية الحادة التي يسببها توسط حرف الراء بين حرفي كلمة "حب" التي ترمز للحياة، إذ ينقلها الى ضفة الخراب والموت، ليصور الشاعر حيرته في هذا العالم الذي يتقلب فيه حال البلدان وتتبدل المصائر، وهذا الحال يصوره حال حرف الراء مع كلمة "حب" وبذلك يقابل توسط الراء بين حرفي الحاء والباء بالفعل الذي يقوم به دعاة الحرب، ويختم الصائغ القصيدة بحرفي الحاء والباء وبينهما نقاط رغبة باسقاط حرف الراء للخلاص من الموت والتطلع للحياة إذ يقول: (.. ر): "كثيراً ما قَلَبْتَ المصائر/ والعساكر/ والبلدان/ أيُّها الحرفُ المتأرجح/ بين حرفين/ أو عالمَين: ح....ب".       

فهذه الومضة ذات النزعة التكثيفيَّة والسمة الانفعاليَّة تعبير مقتضب وموحٍ يختزله الصائغ في صورة كلية واحدة تنطلق من فطنةً وذكاء، وتتطلب نباهة وتركيز من المتلقي، سجل فيها الشاعر موقفه من دعاة الحرب.

ويبقى التجريب في الشكل الذي وجدناه في (نرد النص) حاضرًا في هذا الديوان بدءًا من العنوان الذي يفصل فيه بين "ومضاتـ " التي تحيل الى نوع القصيدة و (كِ)الذي يحيل للمرأة التي استهل الديوان بقصيدة عنونها "كتاب أُريدُكِ" التي يقول فيها "الشعرُ والخمرُ؛ منكِ وفيكِ وعنكِ إليكِ: بهاءً و ورداً ومكتحلا" فعنوان الديوان يُحيل لنوع القصيدة والمرأة التي احتلت مساحة واسعة من الديوان، إذ أفرد لها عددًا كبيرًا من الومضات تضمنتها عنوانات عامة مثل "كتاب الجمال، كتاب القصيدة ،كتاب القبلة، كتاب المرأة، كتاب الجمرة، كتاب الموسقى، كتاب العود، كتاب الناي" فهو يمزج بين المرأة وقصيدة النثر بقوله: "إِطراقتُكِ/ أمامَ مرايا الورقةِ/ موسيقى داخليةٌ لقصيدةِ نثر".

فالصائغ هنا يوظف مشاعره وأحاسيسه اتجاه المرأة للتعبير عن رأيه بالموسيقى الداخلية لقصيدة النثر وفي ومضات أخرى يلجأ للبحر الخليلي وأخرى للتفعيلة من خلال تفعيل مخيلته في كتابة الومضة الشعريّة التي يحاول فيها مجاراة العصر، لتتوزع الومضات بين قصائد نثر والتفعيلة والنص المفتوح وقصيدة الشطرين، من دون أن يخلو الديوان من بعض القصائد الطويلة.