في نقـدِ النّقـدِ الثّقافي

ثقافة 2019/06/18
...

رعـد فاضل
إن لم يكن الشّكل الشعريّ كما الحداثة زمانيّاً، أي متحوّلاً إزاء كلّ متطلَّب يواجهه العالم، لن يكون طليعيّاً، هذا إذا ما كان تعريف بارت للطليعيّة - وإن بدا متقاطعاً مع هذه التوطئة- مقنعاً ومقبولاً ويمكن تعميمه، ذلك أنّ الطليعيّة عنده ((شكل مطوَّر للماضي، وأنّ اليوم هو انبثاقٌ من أمس))، أي إنّ ((المتنبّي مخبوء في شوقي، وأبا تمّام في السّياب، وعمر بن أبي ربيعة في نزار قبّاني)) كما ساق الغذّاميّ مثاله هذا طِبقاً لتعريف 
بارت.
 لكنّ قصيدة ابن ربيعة والمتنبّي سياقيّة أو ((صيانيّة)) لأنها ليست زمانيّةً، وكذلك هي عند شوقي وقبّاني- وهنا هشاشة الدّقة في المثال- أمّا عند أبي تمّام والسّياب فمختلفة متجاوِزة كونها ((تدميريّة)) أي حداثيّة لأنّها زمانيّة، ذلك أنّ الأخيرينِ خلّصا القصيدة من كلّ معياريّة صارمة وإن بنسبتين متفاوتتينِ وأسلوبينِ مختلفين كونهما من عصرين متباعدينِ كثيراً، غير أنّ تطبيق الغذّامي يكاد يكون مقبولاً من ناحية الرؤية الفكريّة والثقافيّة المشترَكة للأشياء حسبُ ما بين المتنبّي وشوقي، وابن ربيعة وقبّاني/ بينما يظلّ أبو تمّام مختلفاً وبعيداً عنهم لتجاوزه طريقة التعبير الشّعريّة المألوفة، وخروجه على عمود الشّعر العربيّ نفسه ((شعره لا يشبه أشعار الأُوَل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني الموّلّدة)) [الآمدي، كتاب الموازنة، ص 132] و((هذا الذي وضعه أبو تمّام (يقصد شعرَه) ضدّ ما نطقت به العرب)) [ م. س. ن، 1/7]. وكلمة ((ضدّ)) في سياق توصيف الآمديّ هذا لا يمكن أن تعني إلّا (تدمير).
 ذلك ما جعل من النوع الشعريّ الأبي تماميّ، وفيما بعد السّيابيّ شكلينِ شعريين ونسقين ثقافيين يكادان يكونان قائمينِ برأسيهما. من هنا اِبداعيّاً وثقافيّاً: السّياب مخبوءٌ في أبي تمّام، لأنّ كلّ شكل طليعيّ شرطُه التّجاوز والتحوّل ليظلّ خصباً ومليئاً بالرطوبة، ليكون قادراً على البروز بأشكال جديدة، أي كي يظلّ طليعيّاً، لأنّه كما قدّمتُ زمانيّ. نفهم إذاً أنّ الشّكل ليس قشرةً أو زيّاً شعريّاً، وإنّما هو ((مَن يحمي شيئاً ما داخليّاً)) كما فهمه هيجل، وما هذا المحمِيّ في ظنّي إلّا طاقة التجاوز والتحوّل تلك، ولأنّه كذلك فهو لا حدود لتوليديّته: ((تاهتْ على صورة الأشياءِ صورتُهُ، حتّى إذا كمُلَتْ تاهتْ على التّـيهِ)) كما وصّفه أبو تمّام نفسُه. حسناً: إذا ما كانت الجملة الثقافيّة دلالة اكتنازية وتعبيراً نوعيّاً مكثّـفاً حسب النقد الثقافيّ، فكيف يجب أن تكون جملتها الشعريّة؟. إنّ كلّ جملة ثقافية بهذا المعنى إنّما هي شعريّة بامتياز صياغة وأداءً كونها مكتنزة ونوعيّة ومكثّفةً. 
وإذا ما كانت التورية الثقافية كما يراها الغذّاميّ نفسه ((تحمل نسقين لا معنيين، أحد هذين النّسقين واعٍ، والآخر مضمَر)) فما الذي يجب أن تكون عليه التّورية لتكون شعريّةً بهذا المعنى أيضاً؟. سأكتفي  مذكِّراً بأنّ التورية لم تعد تعتمد شعريّاً على طَرفَي معنيين: قريب/ وبعيد، يكون القريب فيها قناعاً للإيحاء بذاك المعنى البعيد، المسألة باتت أكثر تعقيداً بعد أن زُوِجَ ما بين التّوريتين: الأدبيّة/ والثقافيّة، بخاصّةٍ بعد أن صرنا نتوفّر على طريقة أداء شعرية تشتمل على: المعنى، ومعنى المعنى، والنّسقينِ الواعي منهما والمُضمَر. 
هكذا ستكون التّورية في أعلى مستوى شعريّ ممكنٍ لها بعد أن يكون معناها القريب بعيداً، والمعنى البعيدُ الذي تسعى إليه أبعدَ مما نتوقّع ونظن أدبيّاً وثقافيّاً. والآن: إذا ما كانت الكتابة الشعريّة مرآويّةً (تكون مرآةَ نفسها) فذلك يعني أنّها قد تكون منقطعة عن كلّ تواصل ثقافيّ واسعٍ ممكن. أمّا أن تكون مرآويّةً، بمعنى أن ينعكس العالم والأشياء والتّاريخ والإنسان من خلالها بوصفها ذاتاً جماليّة ومعرفيّة فهي اتّصاليّة/ وانفصاليّة في آن: اتّصاليةٌ من جهة حضور العالم والأشياء والتّاريخ والإنسان فيها حضوراً اِبداعياً منتِجاً/ وانفصاليّةٌ كونها لا تعكس ذلك الحضور انعكاساً ذا طويّة أمينةٍ، وإنّما تزجّه في مختبر لعبها الشعريّ لتفكّكه وتعيد انتاجه على وفق رؤيتها الجماليّة والثقافيّة. فـ ((آنا باز)) مثالاً: تعني الغزوة إلى الدّاخل وهي مكتوبة لزينوفون يؤرّخ فيها لــ ((حملة العشرة الآف)) التي قادها كورش الأصغرُ بن دارا الثانيّ للاستحواذ على مُلك بابل. وقد كتب سان جون بيرس مطوّلته الشّعرية ((آنا باز)) بعد رحلة ثقافية قام بها في آسيا الوسطى. 
إنّ مطوّلة بيرس بأناشيدها العشرة هي أوّليّاً غير تلك الأفكار المقبولة ثقافيّاً التي نلحظها في آنا باز زينوفون بوصفها مكتوبة تاريخيّة ثقافيّة محضاً، بمعنى أنّ بيرس كتب آنا بازَهُ الشعريّة- الثقافيّة جماليّاً.
 وإذا ما أردنا أن نسمّي هذه المطوّلة غزوةً فلا بدّ أن تكون غزوةً من زمان ومكان معلَّقين محتملَين متخيَّلينِ؛ أي أدبيينِ حتّى وإن كانا ثقافيينِ أصلاً. وعليه فَـلئن كان السّبب هو ((الواسطة بين شيئين)) ولئن كانت العلّة ((وصفاً أو معنىً يحلّ بالشيء فيوجِب له حكماً)) كما فهمنا من الفلسفة، فالنّص الشعريّ ما هو إذاً إلّا (العِلّة) ما بين اللغة الشعريّة بوصفها معطىً جماليّاً، والثقافة بوصفها معطىً فكريّاً وحضاريّاً. وبذا هل يمكن أن يُعدّ النقـد الثقافيُّ ((مرادفاً للنقد الحضاريّ، ونشاط فكريّاً يتخذ من الثقافة بشموليّتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبّر عن مواقف إزاء تطوّراتها وسماتها)) كما فهمه البازعيّ والرويليّ في دليل الناقد الأدبيّ، ص 305؟.
 إن كان كذلك فهذا يعني أنّ المعايير المركزيّة التي يتّبعها النقد الثقافيّ هي في حقيقتها معايير أخلاقية واديولوجيّة تبحث سوسيولوجيّاً عن تأثيرات الأنساق المجتمعيّة في النصّ الشعريّ، ممّا سيعني بالمقابل أنّ النصّ هنا ما هو أوّلاً إلّا خطابات سوسيولوجيّة قبل أن يكون أثراً جماليّاً ابداعيّاً، ونزعةً ذاتيّة. يستند هذا النقد كثيراً إلى المنهج التفكيكيّ للتوصل في المقام الأوّل إلى الأنساق الثقافية وأثرِها في كلّ عمل شعريّ. ولكن إذا ما كان فعل الكتابة ((يوقظ معنى ارادة الإرادة كحريّة وانقطاع عن وسط التاريخ التجريبيّ، على أمل تحقيق وفاق مع الجوهر الخفيّ للتجريبيّة، ومع التّاريخانية المحض)) كما يحاجِج دريدا من جهة أنّ التّاريخانيّة لا ترمي إلّا إلى تفسير الأشياء في ضوء تصوّرها التاريخيّ، فإنّ معنى اِرادة الإرادة سيوقظ بالمقابل أيضاً شيئاً من التّنبّه إلى الّلا إرادة نفسها، تنبّه مفاده: ليس الشاعر هو وحده من يمارس فعل الكتابة، وإنّما هنالك فعل خفيّ آخر يسهم فيها معه، ذلك الفعل هو لا ارادة الشّاعر، أي منظومة ثقافته: لغة، تاريخاً، تجربة، واقعاً نفسيّاً، هويّة فكريّة وفلسفيةً وعاطفيّة...، وعلى ذلك لا يمكن عدّ الشاعر وفعله الآخر بهذا المعنى فعلاً واحداً مستقلّاً قائماً بذاته، كما لا يمكن القول فعليّاً بـإرادتين للكتابة، وإنّما بإرادة الذّات الكاتبة التي تشتمل على الفعلين هذينِ: فعل الشّاعر الإبداعيّ الذاتيّ من جهة، وفعلِ منظومة ثقافته من جهة أخرى. المهمّ نقديّاً هنا أيضاً التنقيب عن ما وراء شعريّة الكلمات والأنساق، كما لو كانت الغاية زجّ العالم في الرؤية الشعريّة ومزجهما كيميائيّاً بعناية معاً، لنرى وننصت إلى هسيس تلك التفاعلات الجماليّة والثقافيّة التي ستجري في النصّ، ثمّ لنفكّك تلك الرؤى وذلك الهسيسَ المُنتَجَينِ بحثاً عن ما وراءهما، ونعيد في النهاية صياغتهما 
نقديّاً. 
أن نكتب وفقاً لهذا التّنظير يعني أن نشخصِن الجمال والمعرفة والثقافة شعريّاً، ومن دون ذلك لن نكون سوى انشائيينَ متطفّلين متبجّحينَ لا أكثر. ولا أنسى أنّ أيّ نصّ أدبيّ لا يمكن تحديد مستواه الثقافيّ إلّا إذا حدّدنا أوّلاً: هو موجّهٌ لأيّ نوع ومستوىً ثقافيينِ من القرّاء، لنكتشف شئنا أم أبينا أنّ ما يتخلّف حقيقةً ليس الأدب الحقيقيّ وثقافته، وإنّما العقليّة الجمعيّة لمنظومة الثقافة المجتمعيّة، لأنّ الشّرط الأوليّ لثقافة الشّاعر لابدّ أن تكون ابداعيّة كي لا تخمل حتّى لا تتخلّف، ذلك أنّ ((عقدة الثقافة بشكلها الجيّد تنبعث وتتجدّد. أمّا عقدة الثقافة بشكلها الرديء، فعادة مدرسيّة لكاتب عديم الخيال)) ويمكن أن نضيف إلى رأي باشلار هذا: وعادة ما يكون أغلب الثقافة الجمعيّة من نوع العقدة 
الثانية. 
وأخيراً: ترى ما طبيعة العلاقة الثقافيّة ما بين الأدب الشّعبويّ والنقد الثقاقيّ ما دمنا في صدد هاتين العقدتين؟. سأدع تودوروف يجيب على هذا التساؤل ((الأدب الشّعبيّ هو الذي يصنع صيتَه القرّاء أكثر من النقّاد)).
 [الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشّرقاويّ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1990، ص41].