بازوليني يحلّل أعمال الرسام النهضوي كارافاجيو سينمائياً

ثقافة 2024/09/09
...

 بقلم: بيير باولو باسوليني

  ترجمة: مبارك حسني 

ما أعرفه عن رسام النهضة العظيم مايكل أنجلو ميريزي المعروف بكارافاجيو (1571 - 1610) استقيته من خلال ما كتبه عنه مؤرخ الفن روبرتو لونغي (1890 - 1970). من المؤكد أن ميريزي كان مبدعا عظيما، وأحد كبار ممثلي التيار الواقعي في الرسم. وهذا يدفعنا للسؤال: ما الذي اخترعه حقا؟ ولا أطرح هذا السؤال بغرض استخدام تعبير بلاغي؛ بل الحقيقة أنني لا أستطيع الاعتماد إلا على ما قاله لونغي. في البداية، لا بد من القول إن كارافاجيو أبدع أسلوبا جديدا،  يمكن وصفه بمصطلحات سينمائية على أنه "ما قبل فيلمي".

نقصد بهذا المصطلح كل ما يوجد أمام الكاميرا. وبعبارة أكثر وضوحا، ابتدع كارافاجيو عالمًا كاملا من العناصر التي يمكن وضعها وترتيبها أمام حامل لوحاته في مرسمه، شخصيات جديدة تنتمي لمختلف الطبقات الاجتماعية، أشياء جديدة، ومناظر طبيعية جديدة. وفي المقام الثاني، ابتدع نوعًا جديدًا من الضوء، استبدل الضوء الكوني لعصر النهضة الأفلاطوني بضوء يومي يتسم بالدرامية. هذه الأنواع الجديدة من الناس والأشياء، كما هذا النوع الجديد من الضوء، اخترعها كارافاجيو لأنه رآها في العالم الحقيقي.

على هامش الأيديولوجية الثقافية التي كانت سائدة منذ قرنين في عصره، أدرك كارافاجيو أن هناك أشخاصًا لم يتم تمثيلهم أبدًا في اللوحات الجدارية أو الرسوم الكبيرة، وأن هناك أوقاتًا في اليوم، وإضاءات عابرة لكنها مطلقة، لم تُصور أبدًا. وبما أنها كانت بعيدة جداً عن العرف والعادة، أصبحت في نهاية المطاف تتميز بما تكشفه وتفضحه، فاختفت. إلى حد أنه من المحتمل أن الرسامين، بل حتى الناس عمومًا، وحتى كارافاجيو نفسه، لم يكونوا يرونها.

الشيء الثالث الذي اخترعه كارافاجيو هو غشاء (مضيء هو الآخر، لكنه ذو ضوء صناعي ينتمي إلى الرسم وليس إلى الواقع) يفصلنا نحن المشاهدين عن شخصياته، وعن لوحاته الساكنة، وعن مناظره الطبيعية. هذا الغشاء ينقل الأشياء التي رسمها كارافاجيو إلى عالم منفصل، وفي بعض النواحي ميت (على الأقل بالمقارنة مع الحياة والنظرة الواقعية التي كانت تُدرك بها تلك الأشياء وتُرسم حينها).

وقد شرح روبرتو لونغي ذلك بشكل رائع من خلال فرضية أن كارافاجيو كان يرسم وهو ينظر إلى نماذجه منعكسةً في مرآة. وهي شخصيات اختارها الرسام بسبب انتمائها إلى الواقع الحي: شبان مجهولون، ونساء من عامة الشعب مهملات دائمًا.. إلخ. شخصيات غارقة في الضوء الحقيقي لساعة معينة من اليوم، بكل ظلالها وشمسها. ومع ذلك، يبدو كل شيء في المرآة معلقًا، كما لو بفعل فائض من الحقيقة، فائض من البداهة، الأمر الذي يجعل كل ذلك يبدو 

ميتًا. يمكنني أن أحب، بشكل نقدي، اختيار صاحب لوحة "موت العذراء" التي أعدم بسببها الواقعي في تجسيد الشخصيات والأشياء من العالم للرسم، ويمكنني أن أحب بشكل أكبر، وبالنقدية نفسها، اختراعه لضوء جديد تظهر فيه الأحداث الثابتة. وهذا يتطلب دراسة تاريخية للتعرف على عظمة الواقعية.

لكن بما أنني لست ناقدًا فنيًا، وأرى الأمور من منظور تاريخي قد يكون خاطئًا ومسطحًا، فإن الواقعية في أعمال كارافاجيو تبدو لي أمرًا عاديًا نسبيًا، وقد تم تجاوزها على مر القرون باختراع أشكال جديدة أخرى من الواقعية. ومع ذلك، فيما يتعلق بضوئه، يمكنني أن أقدر هذا التجديد الدرامي المستحدث وغير العادي.

غير أن الاتجاه الجمالي الذي أسعى إليه – وهو ناتج عن مناورات في اللاوعي الخاص بي لا أعلم مصدرها – يجعلني لا أحب اختراعات الضوء. أُفضل بكثير الاختراعات التي تتعلق بالأشكال. فأي طريقة جديدة لإدراك الضوء تثير حماسي بشكل أقل من كل طريقة جديدة للإدراك، على سبيل المثال، الأشكال التي تأخذها ركبة العذراء تحت ثوبها أو التي تكشف عنها التفاتة قديس في مقدمة اللوحة. أحب اختراعات وإلغاءات الضوء والظلال، والهندسة، والتكوين. أمام الفوضى الضوئية لكارافاجيو، أبقى معجبًا، لكن بشيء من عدم 

الانخراط.

ما يثير شغفي حقًا هو الاختراع الثالث لكارافاجيو، الغشاء المضيء الذي يجعل شخصياته معزولة، مصطنعة، وكأنها منعكسة في مرآة كونية. 

هنا، يمكننا أن نلمس الملامح الشعبية والواقعية للوجوه، لكن هذه الملامح تتحول إلى نمطية جنائزية. وهكذا، يتجمد الضوء، مهما كان ساطعًا في اللحظة التي تم التقاطه فيها، ويصير أشبه بآلة بلورية ضخمة. لا يظهر باخوس مريضًا لوحده، بل حتى ثماره تبدو مريضة. وليس فقط باخوس، بل جميع شخصيات كارافاجيو يظهرون مرضى، وهم الذين من المفترض أن يكونوا بحكم التعريف مليئين بالحياة وبصحة جيدة، لديهم على العكس من ذلك، بشرة متآكلة بحمرة الموت 

الشاحبة.

منقول عن ترجمة فرنسية،

 بموقع derive.tv