لعبة الميتا سرد

ثقافة 2024/09/17
...

 زهير الجبوري 


تستدرجنا اللعبة السرديَّة في رواية "نور خضر خان" لجابر خليفة جابر إلى منعطفات متباعدة في التداخل السردي المقصود في سرديّات ما بعد الرواية، ومحاولة جعل الأحداث مع الشخصيات والأمكنة، مخيال نصّي ينطوي على مزاج مختلف في طريقة التلقي، وربما هي مغامرة تبدو للوهلة الأولى، لأنها باختصار لا تخضع لدلالات وقائعيَّة بحتة بقدر ما تدرك سلطة الكتابة عند المؤلف وهي تشكّل عالمه السردي الخاص، فما بين الوثائق والحقائق المتداولة في الذاكرة الجمعيَّة والأحداث التي يذكرها التاريخ والأخرى التي عشنا تفاصيلها في العقود الأخيرة؟، ثمّة ما ينسرح في طيات الكتابة السرديَّة عالم المحطات الحسّاسة في تاريخ الأحداث وما رافقها من شخوص لها مكانتها الجغرافيَّة الخاصة، حتى الزمن فهو غير الزمن المثبت بالوثائق، إنّما هو زمن الرواية، فقد خضع لآليَّة خاصة، بل أخذ مداه إلى افتراض الحدث في العقود المقبلة، وسنأتي إلى تحليله نقديّاً.

 تأتي الوحدة السرديَّة/ الكليَّة للرواية على قصديَّة غاية الدقة في جعل حفريات المصادر تتداخل مع سياق البناء الروائي، وحين نمسك بالإطار العام لبنائيَّة الرواية ذاتها وفق تصنيف سردي، يتبين لنا قدرة السارد في الوصول إلى فن روائي غير مألوف، أو بالأحرى الّلعب في منطقة "ما وراء الرواية"، وهذا ما لم يستطع غيره الوصول إليه إلّا القليل من الروائيين العراقيين، والاستثناء الناجم عن تفرّد سردي، هو أيضاً محطة كبيرة للملمة تواريخ الأمكنة المتناولة في عمله الروائي، وكانت له تجربة مشابهة في كتابة القصّة والرواية، لكن بأداء سردي مختلف، وأجدني في مواجهة حسّاسة لمضمون عميق تمكّن منه، ثمَّ صاغه بالأسلوب الذي يجعل متعة القراءة هي ذاتها متعة الابتكار والتمييز السردي.

لا توجد معايير يمكن تسميتها بالنستولوجيا، إنما هي خيال سردي افتراضي انطلاقاً من اصدار الرواية الطبعة الأولى والثانية، ومن ثمَّ يخضع الزمن السردي إلى لعبة سرديَّة قابلة للتلقي "كالأكشن" في أفلام هوليود، وهي حفريَّات "ما ورائيَّة" غير بريئة عمّقت فنية الكتابة السردية في الرواية وزحزحت تفاصيل الأحداث الى ظهور ما لم نتوقعه من عوالم شهدتها التفاصيل المسرودة ذاتها، فاذا كان هناك واقع له أثره، فإنَّ الروائي أظهر استبطان الواقع من خلال بعض الدقائق التي تبدو صغيرة كالعتبات التاريخيَّة والوقائع وتداخل الهويات والبحث في الأرشفة والأضابير التي كانت تمثّل اِلتفاتة حسّاسة ودقيقة في كونها تشكل عتبة نصيَّة غاية الأهمية، ولا اكتفي في هكذا تحليل مقارنة بالجهد الكبير الذي بذله جابر في هذا المنجز الذي تمحور في خلاصته بالكتابة الروائيَّة. في الحقيقة هناك شيءٌ أبعد من ذلك، وهو الوقت الذي بذله الروائي في ملاحقة دقائق المعلومات لفترة طويلة جداً، هنا بالذات يمثل قراءة ثقافيَّة لما بعد السرد الروائي، ومن ثمَّ لم تكن الرواية فكرة أو موضوعة تخضع لسلطة خيال المؤلف فحسب، ما قبل اكتمال الرواية هو فن المسكوت عنه، "الجذر الحقيقي للرواية"، وما يمكن الإمساك بحفريات ما وراء السرد في هذه الرواية يتلخص 

في :

1ـ مؤلفو الرواية: في الحقيقة لم تكن رواية داخل رواية، إنما رواية يتعاقب عليها شخوص وفق مناصات مبّأرة بحزمةٍ من السرديات الحكائيّة والمرويات الشفاهيّة والدلائل المثبتة بمصادر، ورغبات تداولها بعض شخوص الرواية، كلّها نصوص خضعت للعبة سرديّة، حتى المخيال المشتغل عليه فهو خاضع للتدوين، ومع هذه الخيوط المتباعدة "ليس ثمّة شيء خارج النص" بحسب دريدا، "كلّ شيء خاضع لأنظمة العقل" كما يقول: فينست ليتش"، لذا لا يريد جابر أن يكرر الأطر السرديّة المطروحة، إنما شيطانه السردي يدلّه على بواكير غير مألوفة، وبذلك نلمس في قراءتنا للراوية أن مؤلفي الرواية :

أ ـ نُور علي خُضر خَان: (المؤلف الأول): كتبت للوهلة الأولى كتاباً بعنوان (دار زمان) بعد زيارة قريبها (خاجيك) في لندن وتحدث معها على تفاصيل دقيقة، ولأنّها تكتب القصة القصيرة فقد ارتأت أن تقوم بهذا الجهد، غير أنَّ هذا الكتاب برأي دار النشر عليه أن يتحول إلى رواية، وهذا ما يجعل أصحاب الشأن ان يختاروا الروائي جابر خليفة جابر ليقوم بهذه المهمة.

ب ـ جابر خليفة جابر: (المؤلف الثاني): يحول تفاصيل الكتاب (دار زمان) الى رواية بعنوان (آنوش) ـ الطبعة الأولى ـ دار ميران للطباعة والنشر، معتمداً على ما جاءت به الأحداث المدونة والمكتوبة، ولكنْ ثمّة تلاعب نسقي انطوى على عنونة افتراضية مسبقة، ثمّ ما لبث الروائي أن يستعير الزمن الآتي وفي خيال سردي افتراضي وبعد (25 سنة) من كتابة الرواية، يأتي المؤلف الثالث (خاجيك) ليعيد طباعتها.

جـ ـ خاجيك: (المؤلف الثانية): يعيد طبع الرواية ـ الطبعة الثانية ـ بتسمية (نُور خُضر خان)، تقديراً لهذا الاسم كونها زوجته وقد وفاها الأجل هي والمؤلف الثاني (جابر) وتحديداً في العام 2049 . 

د ـ ظهرت بعض الأصوات لشخصيات راوية للأحداث بطرق أدائيَّة عديدة كـ (فاطمة القراطيسي، واشرقت، وسلام، وآنوش)، هي اصوات تداخلت في الروي مع حالات كل حدث، أسهمت هذه الأصوات في تشكيل المضمون.

2 ـ البعد الزمني: انطلاقاً من المفهوم الذي أثاره منظر الزمن في الأدب "هانز ميرهوف" والذي ينطوي على جوهر المضمون الروائي حيث قال "الزمن وسيط الرواية مثلما هو وسيط الحياة"، فإن أدرك الروائي لحساسيَّة الكتابة السرديَّة أفاض لنفسه الجرأة في فتح شفرات الواقع المؤطر بزمن معين وجعله زمناً قابلاً للتداول، مثلما هناك زمن مستعار وآخر افتراضي:  

أ ـ زمن الكتابة الروائيَّة: هو زمن فني خاضع للتدوين ولمعايير الكتابة ذاتها، أو بالأحرى يتحكّم السارد ذاته مثلما يريد، ولا أريد تحليل الزمن بالمفاهيم التي جاء بها "جيرار جنييت" وكتابه "خطاب الحكاية" أو "ميشال بوتو" وكتابه "مقالات عن الرواية"، بقدر ما أود الإمساك به لمرحلة زمن الروائي ذاته في جعل أحداث ووقائع وشخصيات وأماكن، كلّها أعيد انتاجها وصياغتها وفق طبخة سرديَّة خاصة، بمعنى المراحل التي شهدتها البصرة وبعض الأماكن المذكور في الرواية خضعت لزمن الروائي الذي هو نفسه زمن الرواية.

ب ـ الزمن المستعار: هو زمن القادم، أو زمن التواريخ اللاحقة التي فرضتها سلطة الكتابة السرديّة، فحين نقرأ الأحداث التاريخيّة البعيدة أو المعاصرة عبر محطات استعاديَّة قدمها الروائي بجهدٍ استثنائي، فهو أمرٌ طبيعي، لكن حين تذهب تفاصيل الرواية لما بعد صدورها الآن الى أزمان قادمة قريبة (2024) أو بعيدة (2049)، فهو زمن مستعار فرض عبر استيحاء سردي تنبّؤي قابل للتلقي.

جـ ـ الزمن الافتراضي: هو الزمن الذي يطابق فضاء الرواية ولا ينقطع عن المعنى وعن الترابط الموضوعي، مع أنّه "مبني على افتراض"، أو على "مسائل افتراضيَّة"، وفي الرواية التي معنا يكون الافتراض فني، للضرورة السرديّة التي أخذ بها الروائي تأطير روايته بحبكة متوازنة.

الملفت للنظر، أن رواية "نُور خُضر خان"، شهدت تحولات فرضتها طبيعة المراحل الزمنيّة لتاريخ مدينة البصرة، أو تاريخ البلد بعامته، فمنذ أكثر من قرن من الزمن كانت على أرضية المدينة صراعات عثمانيّة/ هولنديّة/ انكليزيّة، مع تداخل هويات من وفد للمدينة بين "مسلم، ومسيحي، وصابئي، وغير ذلك"، كما فرضت الأعراف والتقاليد هيمنتها على المجتمع من خلال السلطة البطرياركية المعششة في مجتمع جذوره عشائريَّة، كواقعة الأمير "المهنا" للوشاية التي سمعها عن أختيه مع أحد الشيوخ، مع بعض الحكايات التي قرأناها والتي تكشف عن فضاءات مشحونة بحياة لها أجواء معبرة عن مرحلة معينة، أيضا نلمس ما انطوت عليه بعض الأماكن المذكورة في الرواية، الأماكن التي تشغل الحيز الأكثر فاعلية كمقبرة "مزالك" و "دار زمان"، و"البصرة القديمة/ محلة نظران"، حيث تدور الأحداث عليها وفق "بارتات" منضبطة سرديّاً، ولكن ما التحول او التغيّر الذي حصل في الأقسام الثلاثة داخل الرواية؟. في الحقيقة هو تجول دراماتيكي تصاعدي كشف عن مراحل مهمة وحساسة، إلّا أنّها خضعت لسلطة البناء الروائي، وكأنَّ الروائي سمع ما قاله "ميشيل بورتو" من أنَّ "الرواية تعبير عن مجتمع يتغير، ولا تلبث أنْ تصبح تعبيراً عن مجتمع يعي أنْ يتغير"، لهذا الأمر كانت الحفريات السرديَّة تعي أهمية ما يمكن توظيفه افتراضيّاً، مع استمداد هذا التوظيف بخيوط الواقع المعيش أو المعاصر، وأعني هنا ما جاءت به العقود الأخيرة من أثر تفاصيل معيشة، وإن كانت سريعة غير أنّها أوفت بالغرض لأنّها لا تحتاج الى أضابير ومصادر، الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانيات والتسعينات، تفاصيلها معيشة وملموسة.

وانطلاقاً لما ذكره "جيرار جنييت" حول السمة المغايرة للرواية المختلفة "إنَّ السمة الجوهريَّة المغرية اللصيقة بجسد الرواية، والمتمثلة بالقدرة الذاتية والقابلية للتحول، هي دعوة الى نبذ المنظور القديم"، فإنّ جابر خايفة جابر يعد السارد الأقرب إلى الرأي وهذه التجربة، ربما يساندني في الرأي العديد ممن اطلع على تجربته من النقاد، ولأن إعادة إنتاج التاريخ وتوظيفه بالشكل الذي يجعل فيه مفاهيم معاصرة آنياً يعد من اشتغالات ما بعد الحداثة، مما لا شك فيه لمسنا هذا الشيء لأن فعل المغايرة في الكتابة السرديّة الروائيّة يحتاج الى تقنية الكتابة، أو هي من فنون الكتابة المنبعثة باتجاه الكشوفات اللغوية لفن السرد.