وثيقة المدينة الدستوريَّة وأسسُ النظام التعاقدي
جواد علي كسار
بعد تردّدٍ دام أياماً، حسمتُ رأيي في الكتابة عن «النظام التعاقدي» في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسيرته، بدلاً من الموضوع الأثير عندي كلما كتبتُ عن النبي صلى الله عليه وآله في ذكرى مولده. ففي كلّ ذكرى سنويَّة تمرّ لمولد أُسّ الوجود وسيّده النبي المصطفى، كنتُ أحرص أنْ أمرَّ على وقائع منتقاة من حياته وسيرته، تكشف عن ذلك الارتباط العميق بشخصه، عبر ما أسميه بـمنهج «السيرة الحبيَّة» التي أرى فيها ذروة الارتباط الأعلى بسيّد الكائنات، من بين المنهجيات الأشهر في السيرة، بدءاً من المنهج السردي التأريخي، إلى المنهج التحليلي الحديث، ثمّ المنهج التحليلي النقدي المعاصر، وما يقع بينها من منهجيات فرعيَّة في دراسة حياة المصطفى وسيرته.
الوثائق والمعاهدات
يرتدّ «النظام التعاقدي» من حيث مادّته إلى وجود مجموعة من الوثائق والمعاهدات التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله، داخل مكة والمدينة وخارجها، وامتدّت أحياناً إلى ما هو أبعد من موطن الإسلام الأوّل ومنبثقه؛ الجزيرة العربيَّة، عبر مجموعة من المكاتيب والمراسلات التي بعث بها النبي، ومارسها بنفسه وإبّان حياته، إلى أبرز الكيانات والدول المعاصرة له. مجموع هذه الاتفاقيات والمعاهدات هي المادّة الأساسية لنظريَّة «النظام التعاقدي»، بوصفها وسيلة لإعادة قراءة السيرة النبويَّة، في جانبها السياسي ومنهج الحكم تحديداً، كما رأيتُ ذلك في آخر محاولة أطلعتُ عليها في هذا المجال، تمثلت بكتابٍ جديدٍ للباحث الإيراني الراحل الشيخ داود فيرحي (1964 ـ 2020م) عنوانه: «النبوة والعقد: نظريَّة بشأن سيرة حكم النبي على أساس أنموذج العقد» صدر تواً.
باختصارٍ شديدٍ؛ ما يذهب إليه أصحاب هذا الاتجاه أو النظريَّة، أن النبي صلى الله عليه وآله أقام أنموذجه في الحكم على أساس «التعاقد»، الذي يستبطن بجوهره الحرية والاختيار من جهة والتكافؤ والمساواة من جهة أخرى، بعيداً كلّ البُعد عن الفرض والإكراه، ذلك لأن «العقد» في عُرف العقلاء هو تعبير عن عملية تراضٍ بين طرفين، على ما يتّفقا عليه، وهو موجود في حياة الإنسان قبل الشرع، ودور الشرع لم يزد على إقراره وحسب.
كما أنَّ «العقد» في التكييف الفقهي هو واحدٌ من أربعة أقسام تنتظم المصفوفة الفقهيَّة عامَّة؛ هي العبادات، والعقود، والإيقاعات والأحكام، يقوم بحسب الفقهاء على ركنين هما الإيجاب والقبول، وله أشكالٌ عدّة من بينها الكتابة.
وثائق العهد النبوي
إذا وضعنا دائرة الباحثين والمختصين جانباً فإنَّ معلوماتنا العامَّة عن حياة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسيرته، تُعدّ فقيرة جداً، لا تكاد تتجاوز ملامح باهتة راسبة من أيام الدراسة ومناهجها الفقيرة اليابسة (بل البائسة!) في تغطيتها للنبي وسيرته، قد يُضاف إليها أحياناً لمحات «فيسبوكية» شوهاء، مبتورة سريعة وعجلى من بقية وسائل التواصل، أو من قصص المنابر والحكايات غير الموثقة في الغالب. لذلك إذا ما سألت أحداً عن الاتفاقيات والمعاهدات التي أجراها النبي في حياته لا تجد أفضلنا معرفةً، يزيد على ذكر وثيقة المدينة ومعاهدة صلح الحديبية، غالباً من دون معرفة موضوع هذه المعاهدات وأطرافها، فضلاً عن مادّتها ومحتواها، وما يشتبك معها من أبعادٍ مكانيَّة وسياسيَّة وحقوقيَّة وتأريخيَّة، وما وراء ذلك كله من دِلالات نظريَّة وفكريَّة وفقهيَّة وقانونيَّة.
لكن صورة المسألة تختلف جذرياً لدى الدارسين والمختصين، بما بذلوه من جهودٍ في البحث والدراسة والتحليل، وفي الجمع والتوثيق لم تكد تغادر صغيرة أو كبيرة تتصل بحياة النبي وسيرته، إلا وثّقوا لها وأحصوها في كتبهم ومدوّناتهم.
ربما كان أبرز مدوّنة على مستوى متابعة وجمع وثائق العهد النبوي، هو عمل العالم الهندي محمد حميد الله (1908 ـ 2002م) في كتابه: «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة». كذلك كتاب أحمد عجاج كرمي (معاصر، ولد: 1961م) الموسوم: «الإدارة في عصر الرسول: دراسة تأريخيَّة للنظم الإداريَّة في الدولة الإسلاميَّة الأولى»، أضف إلى ذلك كتاب علي أحمدي ميانجي (ت: 2000م) «مكاتيب الرسول» (أربعة مجلدات).
وثيقة المدينة
لا ريب أنَّ وثيقة المدينة أو دستور المدينة هي الأبرز من بين الوثائق النبويَّة، ولكنها ليست الوحيدة. صدرت هذه الوثيقة بحسب الغالب على رأي المؤرخين، في السنة الأولى للهجرة النبويَّة، إذ استكمل بها النبي صلى الله عليه وآله ما كان قد بدأه أوّل مهجره إلى يثرب، من بناء مركزية مكانية للمهاجرين والأنصار هي المسجد النبوي نفسه، ثمّ خطوته الرائدة في تأسيس الوحدة والانسجام الاجتماعي داخل مختلف أوساط المسلمين ونحلهم القبلية من خلال المؤاخاة، ليأتي عهد أو ميثاق المدينة ثالثاً، بهدف الإعلان عن انبثاق أمة جديدة بالمعنى السياسي والإعلان عن إقامتها ووجودها، عبر نصوص هذا الميثاق.
بالعودة إلى أطوار كتابة السيرة النبويَّة ومدوّناتها تجتمع كلمة الباحثين دون اختلاف يُذكر بينهم، أن محمد بن إسحاق (85 ـ 151هـ) هو أول من بدأ السيرة المستقلة بمنهج الحوليات، بديهي بتوظيف ما تراكم قبله من مدوّنات جزئيَّة (تُنظر الدراسة الممتازة: تطوّر كتابة السيرة النبويَّة، عمار نصار).
ما يهمّنا من هذه الإشارة أن ابن إسحاق أورد نص وثيقة ميثاق المدينة في سيرته، تبعه على ذلك ابن هشام المعافري المتوفى 218هـ، وقد ارتكب خطأً تأريخياً عظيماً اختلطت فيه الدوافع العلمية بالسياسية، عندما اختصر سيرة ابن إسحاق، ما أدّى إلى اندثارها ومحو أثرها إلا ما جاء عن طريق ابن هشام نفسه. وإلى جوار ابن إسحاق وابن هشام، وردت الوثيقة أيضاً في كتاب «الأموال» لأبي عبيد قاسم بن سلام (ت: 224هـ) وابن زنجَوَيه (ت: 251هـ). كما ذكرها البلاذري (ت: 279هـ) في «أنساب الأشراف»، وأشار لها اليعقوبي (ت: 292هـ) في تأريخه، والطبري (ت: 310هـ). ومرّ عليها المحدّثون بإشارات مختصرة أو طويلة، كما فعل أحمد بن حنبل، ومسلم والنسائي، والكليني والطوسي وغيرهم، ما يؤكد إجمالاً صدور هذا الميثاق والاطمئنان إليه، ويزوّدنا بأدلة حاسمة ضدّ ما أُثير عن النصّ من جدليات الصدور والسند، والنفي والإثبات تبعاً لذلك، كما فعل مثلاً محمد العوشن في كتابه: «ما شاع ولم يثبت في النبويَّة الشريفة».
المقاربات المعاصرة
يمكن القول إن أغلب ـ إن لم يكن كلّ ـ من كتب عن السيرة النبويَّة خلال المائة سنة الأخيرة، أولى عناية كبيرة بوثيقة المدينة وتحدّث عنها في ضوء معطياتها في الدولة والاجتماع السياسي، كما في الأمة والمواطنة، وما يقع بين ذلك من مبادئ على رأسها حرية المعتقد والتعدّدية والتعايش والتسامح بين الأقوام والأديان.
فبالعودة مثلاً إلى محمد حسين هيكل (1888 ـ 1956م) وكتابه المبكر «حياة محمد» الذي صدر عام 1935م، نجد تحليلاً بإشارات معمّقة إلى الميثاق بوصفه دالة على الدور السياسي للنبي، اتجه فيه إلى بناء يثرب كوحدة سياسية ونظامية، يجمع بين ساكنيها جميعاً كأمة واحدة مركبة من المسلمين واليهود وغيرهم، على أساس من الحرية والتحالف، عبر الدور الذي لعبته الوثيقة التي قال عنها: «وهي في اعتقادي من الوثائق السياسية الجديرة بالإعجاب على مرّ التأريخ. وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبي أو رسول»، ليخلص بعدها إلى أن الوثيقة قرّرت: «حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة، وحرمة الحياة، وحرمة المال وتحريم الجريمة» (حياة محمد، ص: 186 فما بعد).
عدم العبث بالدولة
بالعودة إلى مدوّنة أخرى من مدوّنات السيرة الحديثة، قدّم لنا هاشم معروف الحسني (1919ـ 1984م) في كتابه: «سيرة المصطفى.. نظرة جديدة» قراءة للوثيقة على أساس التعاون وحرية الأديان والمعتقدات والدفاع عن أرض وإنسان الأمة الجديدة (سيرة المصطفى، ص: 275 فما بعد).
لكنْ من الإطلالات المهمّة برأيي هي تلك التي قدّمها المؤرخ العراقي عماد الدين خليل (معاصر، ولد: 1941م) عندما ألمح أن «الأمة» التي أنشأتها الوثيقة، خليطاً من المسلمين واليهود وغيرهم؛ لتكون أشبه بأمم وشعوب الدول المعاصرة، التي يجمعها الانتماء الواحد وتنتظمها المواطنة؛ هي أمة ثقيلة الوطئ على متبنّياته ونسق تفكيره، فقصرها على أمة المسلمين وحدهم، خلافاً لظاهر النص وانصرافه إلى جميع من يدخل المعاهدة ويرضى بشروطها والتزاماتها، من سكان يثرب دون تمييز، لأن الكلام هنا عن أمة سياسية، أو أمة الدولة بالمعنى الحديث، وإلا لما استقام استنتاجه: «إن إصدار الوثيقة يمثل تطوّراً في مفاهيم الاجتماع السياسية» (دراسة في السيرة، ص: 152).
أجل تحدّث بصراحة أن الصحيفة ضمنت مفهوم الحريَّة الدينيَّة بأوسع معانيها، وأبرزت مفهوم الدولة وسلطتها لمواطنيها جميعاً عندما أحالت إليها تحديداً شؤون الحرب والسلم: «وإن حرب الأفراد وسلمهم إنما تدخل في الاختصاص العام، فلا تحدث فردياً» وأن الدولة وحدها المسؤولة عن إقرار النظام، وإعلان الحرب والسلام، تُردّ إليها الأمور لتحكم بها بحسب القانون، ومن ثمّ لا مجال للعبث بأمن المجتمع وسلامته ودولته، لأي تيار أو كتلة أو جماعة تحت أي شعار كان قبلي أو ديني أو مناطقي، فضلاً عن أن يكون متأثراً بالخارج أو مرتبطاً بقريش أو الفرس أو الروم وغيرهم من القوى السياسية يومها (المصدر، ص: 149 فما بعد).
الرؤية الجديدة
ما مرّ معنا كان مجرّد أمثلة سريعة اقتبسناها على عجلٍ من بعض مختارات مدوّنات السيرة المعاصرة، وأعرضنا عن كثير. المدار الدلالي للوثيقة يكاد يجتمع على عناصر أساسيَّة، تتمثل بأنَّ الوثيقة أشبه ما تكون بالدستور، وأنها صدرت عن عقلية بناء دولة وتحويل الدعوة إلى سلطة وكيان، مع إجماع على أن الوثيقة أقرّت بصراحة التعدّدية الدينيَّة، ولم تفرض الإسلام على سكان يثرب من اليهود وغيرهم، وقد حصل ذلك كله على يد النبي ومن خلاله، ما يعطي للعمليَّة برمتها بُعداً وحيانياً منزلاً وطابعاً دينياً قدسياً.
لكن محاولة الشيخ داود فيرحي التي صدرت للتو بعد وفاته، لتكون حصيلة ثلاث دورات من دروسه الجامعيَّة، تريد أن تحوّل هذه «العقود» و«المواثيق» إلى نظريَّة في ممارسة السلطة وبناء الحكم، وهي تذهب إلى أن «التعاقد» بين طرفين، هو الأساس في إيجاد الحكم، وفي مشروعيته وصلاحية استمراره، ومن ثمّ فإن لا مشروعية للحكم وسط المسلمين من دون اختيارهم ورضاهم، وهذا ما فعله النبي بحسب بحث فيرحي، وقد امتدّ على (433) صفحة من التحليل والاستدلال والبناء والتشييد.
بديهي، ليس لدى فيرحي مشكلة في تكييف مفهوم التعاقد على أسس عقلانية من سيرة العقلاء ومواضعاتهم، أو من الشرع نفسه الذي يوجب لسلامة أي عقد توافر ركني الإيجاب والقبول.
الإشكاليَّة التأريخيَّة
من بين ما تواجهه نظريَّة التعاقد كأساس للحكم بين المسلمين وشرعيته، ما يذهب إليه البعض من أنها تعاني من غربة مزدوجة أو من غربتين؛ غربة البيئة إذ لم يكن لها وجود في البيئة الإنسانية الاجتماعية لعرب الجزيرة، غريبة عن ثقافتهم. ثمّ غربتها على السلوك النبوي نفسه، وأنها لو كانت بهذه المنزلة من الأهمية، لكان ظهر لها معالم وتجليات في سلوك النبي وحياته وسيرته.
ما يذهب إليه فيرحي في معالجة الجانب الأول؛ أن عرب الجزيرة على معرفة بمفهوم التعاقد وقد مارسوه فعلاً في مظاهر متعدّدة من حياتهم الاجتماعية، كما حصل في حلف الفضول، وفي تقنين قواعد حركة الإيلاف التجارية. كما أن مكة المكرمة نفسها مارست وجودها كمدينة عبر وثيقة قصي بن كلاب، بل الأكثر من ذلك نجد أن النبي عقد مع الأنصار قبل مهجره إليهم، اتفاقيتا العقبة الأولى والعقبة الثانية، بشروط ومواصفات محدّدة، ما يعني أن ذهنية يثرب ومكة على الأقلّ كانت مأنوسة بهذا اللون من الثقافة التعاقدية، على ما يستعرض داود فيرحي ذلك بالاستناد أساساً إلى موسوعة مؤرخ العراق د. جواد علي: «المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام»، وكذلك وقائع كتاب أحمد إبراهيم الشريف: «مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول».
الحصيلة من ذلك أن وثيقة المدينة جاء بها النبي صلى الله عليه وآله، متوافقة مع الأعراف والتقاليد التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية، وهي متأثرة إلى حدّ كبير بالحنيفية الإبراهيمية، كما أيضاً بالديانتين اليهودية والمسيحية ومن بعدهما الإسلام.
النبي وثقافة المواثيق
يمارس الكتاب فعل الصدمة لوعينا وهو يزوّدنا بنصوص وثائق ومعاهدات عقدها النبي صلى الله عليه وآله داخل مكة وفي يثرب وفي وسط الجزيرة، بالإضافة إلى مكاتيبه ورسله خارج الجزيرة وأطرافها.
يحدّثنا بالتفصيل عن معاهدة «المقنا وخيبر» مع اليهود، (النبي والعقد، ص: 334 فما بعد) وعن ميثاق أو معاهدة «نجران» مع المسيحيين، هذا الميثاق الذي نقرأ في خاتمته: «لا يُنقض ذلك ولا يُغيّر حتى تقوم الساعة إن شاء الله» مع أن وقائع تحوّلات السلطة بعد النبي غيّرت هذا وأمثاله (المصدر، ص: 299 فما بعد). كما يمكث الباحث مطولاً مع معاهدة ثقيف ـ الطائف (المصدر، ص: 284 فما بعد) بالإضافة طبعاً إلى ميثاق صلح الحديبية، ووثيقة حجة الوداع التي حوّلها النزاع الفرقي بين المسلمين إلى مادّة صراع، بعد أن أراد لها النبي أن تكون ميثاقاً جامعاً ومنهاجاً لعملهم.
يرى فيرحي أن أسباباً سياسيَّة هي المسؤولة عن إخراج هذا التراث النبوي في التعاقد، عن حيّز التداول وخاصةً ما يرتبط بنظريَّة الحكم، فقد استدار الحكم بعد النبي بعيداً عن التعاقد، القائم بالمفهوم الحديث على المواطنة والحرية (الديموقراطية) أو دولة الإنسان بحسب المفكر العراقي عبد الزهراء عثمان محمد (الشهيد عز الدين سليم) بعد أن اكتسب طابعاً تمركزياً شديد المركزية حول مفاهيم الطاعة والخلافة والرمزيات الشخصية، حتى صار الحديث عن الطابع التعاقدي في الفعل النبوي غريباً كغربة النبي نفسه بين أمته!