تقنيات روايات ما بعد الحداثة

ثقافة 2024/09/22
...

  أحمد الشطري

يعد مصطلح ما بعد الحداثة واحدًا من المصطلحات الإشكالية من حيث المحددات الدلاليّة والزمنيّة، فقد اختلف في تحديد الفترة الزمنية لظهور المصطلح وإن كان هناك توافق كبير على أن عقد الخمسينات هو بداية شيوعه سواء أُرجع استخدام المصطلح للمؤرخ البريطاني آرنولد جوزيف توينبي، أو الشاعر والناقد الأمريكي تشارلز أولسون، أو الكاتب الأمريكي ليزلي فيدلر عام 1965، رغم "أن البحث عن أصول المفردة أفضى إلى اكتشاف استخدامها قبل هذا التاريخ بكثير، كما في استخدام جون واتكنز تشايمان لمصطلح (الرسم ما بعد الحداثي) عام 1870، وظهور مصطلح ما بعد الحداثة عند رودولف بانفتز في عام 1917".
أما من حيث المحدد الدلالي للمصطلح، فإن فكر ما بعد الحداثة يتميز بتشكيكه في المبادئ والقيم التقليدية التي اعتبرت أساسية خلال فترة الحداثة، مثل العقلانية، والتقدم، والموضوعية. ومن بين أبرز سمات ما بعد الحداثة:
1. التشكيك في الحقائق المطلقة، فلا وجود لحقيقة ثابتة أو مطلقة في مفاهيم ما بعد الحداثة، بل بدلًا من ذلك نجد أنها تؤكد على أن الحقيقة تتشكل من خلال السياقات الثقافية والاجتماعية.
2. نقد السرديات الكبرى مثل العلم، والدين، والتقدم الحضاري، وتعتبر أن هذه السرديات غالبًا ما تستند إلى تحيزات اجتماعية وثقافية.
3. التركيز على الاهتمام بالأصوات والهويات المهمشة التي كانت مهملة في العصر الحداثي، مع التأكيد على التعددية والتنوع.
4. التداخل بين الأنواع الفنية فقد تميزت ما بعد الحداثة بالجمع بين مختلف الأساليب وتجاوز الحدود بين الأشكال الفنية التقليدية.
وغالباً ما نجد تأثيرات ما بعد الحداثة في التنوع الكبير في الأساليب والتصاميم والابتعاد عن التماثل والتنظيم الصارم في العمارة والأدب، والذي كان سمة بارزة في أساليب الحداثة.
لقد انعكست مفاهيم ما بعد الحداثة بشكل واضح في تطور تقنيات الفن السردي وبشكل أخص في الأدب الروائي عالمياً وعربياً باعتبار أنّها تطور ورد فعل ضد تقاليد السرد التقليدية، من خلال السعي إلى كسر الحدود بين الخيال والواقع عبر استخدام تقنيات سردية تتمثل غالباً بما يلي:
1. التشظي
يتميز السرد في روايات ما بعد الحداثة بالتشظي في البنية السردية والشخصيات والزمن. فعملية السرد قد تكون غير خطية أو تتكون من أجزاء منفصلة لا ترتبط ببعضها بوضوح. وهذه التقنية تُظهر عدم الثبات واللامركزية في الحياة والتجربة الإنسانية.
2. الميتافكشن
وهي تقنية تستخدم لتعليق السرد على نفسه، حيث يدرك النص نفسه بأنه نص أو يعترف بعملية الكتابة. فالشخصية قد تتحدث عن كونها جزءا من الرواية أو قد يشير الكاتب إلى نفسه في النص، مما يكسر الجدار التقليدي بين الكاتب والقارئ.
3. التلاعب بالزمن
عادةً ما يتلاعب كتّاب ما بعد الحداثة بالزمن في السرد، فقد يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في الحكاية. وقد تنتقل الشخصيات بين الأزمان أو يتم تقديم الأحداث بشكل غير خطي، مما يخلق إحساسًا بالفوضى أو عدم الاستقرار الزمني.
4. اللا يقين
غالبا ما تترك روايات ما بعد الحداثة القارئ في حالة من عدم اليقين أو التردد حول ما يحدث في النص. فقد تكون الأحداث والشخصيات غامضة أو لا تفسّر بشكل كامل، مما يسمح بتفسيرات متعددة وقراءات مفتوحة.
5. تداخل الأنواع
تميل روايات ما بعد الحداثة إلى كسر الحدود التقليدية بين الأنواع الأدبية. فقد نجد في الرواية مزيجًا من الخيال العلمي مع الأدب الواقعي، أو الجمع بين الرواية البوليسية والفلسفة، مما يعكس تنوعًا وتعددًا في الأساليب الأدبية.
6. السخرية والتناص
السخرية هي إحدى السمات البارزة في أدب ما بعد الحداثة. إذ يستخدم الكتاب السخرية لإبراز الفجوة بين التوقعات والواقع، أو للسخرية من الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو السخرية من الأدب الكلاسيكي والتناص مع نصوص سابقة، فقد تتم استعارة أو إعادة كتابة مقاطع أو أساليب أدبيَّة من عصور أو كتاب آخرين بشكل ساخر أو تقديري.
7. تفكيك الهوية
الشخصيات في روايات ما بعد الحداثة غالبًا ما تعاني من أزمة هوية أو انعدام الهوية الثابتة. فكثيرًا ما تكون الشخصيات غير ثابتة أو واضحة، بل تكون معقدة ومتغيرة، مما يعكس رؤية ما بعد الحداثة للهويات المتعددة وغير الثابتة.
8. السرد المتعدد
وروايات ما بعد الحداثة غالبًا ما تعتمد على أصوات متعددة للسرد، مما يوفر للقارئ وجهات نظر مختلفة حول الأحداث أو الشخصيات. هذا التعدد في السرد يعزز من اللا يقين ويخلق تجربة قراءة أكثر تعقيدًا.
9. التلاعب باللغة
يتميز أدب ما بعد الحداثة بتجريب اللغة والتلاعب بها، فقد يتم كسر القواعد التقليدية للنحو أو استخدام اللغة بطرق غير مألوفة أو الدمج بين اللغة الفصحى والعامية. وهذا التلاعب يعكس الشك في القدرة على إيصال المعنى بشكل دقيق.
10. الإشارة إلى الثقافة الشعبيّة
يتداخل أدب ما بعد الحداثة كثيرًا مع الثقافة الشعبية، حيث يتم دمج الإشارات إلى الأفلام والموسيقى والتلفزيون والفنون في النصوص الأدبيّة، مما يعكس التأثير المتبادل بين الأدب والثقافة الجماهيريّة.
11. اللعب مع القارئ
كثيرٌ من روايات ما بعد الحداثة تتحدى القارئ ليصبح جزءًا من عملية السرد. أو تتطلب من القارئ تفسير الأحداث أو إكمال القصة بناءً على فهمه الشخصي.
هذه التقنيات تعكس تميز أدب ما بعد الحداثة وقدرته على تقديم قراءة تتحدى التوقعات التقليديَّة وتجعل القارئ يفكر بطرق جديدة حول السرد والواقع.
ولعل من بين أهم الروايات التي نعتقد بأنّها تمثل نماذج مؤكدة لروايات ما بعد الحداثة هي:
1. (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو، إذ تجمع بين عناصر الأدب البوليسي والفلسفة والتاريخ وتستخدم السرد المتداخل والتشكيك في الحقيقة والواقع.
2. (المسلخ رقم 5) لكورت فونيغوت: إذ تعالج بأسلوب ساخر العبثية واللامعقولية في أحداث الحرب العالمية الثانية، وتستعين بالتنقل عبر الزمن والسرد الغريب.
3.  (بيت الأوراق) وتعتمد هذه الرواية السرد غير التقليدي عبر تداخل النصوص بأسلوب معقد. حيث يتداخل الخيال والرعب والنصوص الأدبية بطريقة متشابكة ومعقدة. تجعل القارئ يشكك في الواقع.
أما في الأدب العربي فيمكن أن نشير إلى بعض النماذج التي استخدمت نوعًا ما تقنيات ما بعد الحداثة مثل:
1. (الطوق والإسورة) ليحيى الطاهر عبد الله، والتي تسلط الضوء على الريف المصري عبر أسلوب سردي غير تقليدي، يعتمد على استكشاف الذاكرة الفردية والجماعية، مع اضفاء الطابع الأسطوري على الحياة اليوميَّة، واستخدام اللهجة العامية.
2. (مديح الكراهية) للروائي السوري خالد خليفة، ويستخدم فيها تعددية الأصوات والسرد غير الخطي لتسليط الضوء على تأثير السياسة والاضطهاد على النفس البشرية في سوريا خلال فترة الثمانينات. كما يستخدم فيها تقنيات الحلم والتداخل بين الأزمان.
3. (الطنطورية) لرضوى عاشور، وتستخدم فيها أسلوب السرد المتقطع والزمن المتداخل، وتعالج موضوع النكبة الفلسطينية، وتربط الماضي بالحاضر بطريقة معقدة، مما يكشف عن تشظي الهوية الفلسطينية.
أما عراقيًّا فيمكن أن نشير إلى بعض النماذج الروائية على سبيل المثال وهي:
1. (الرجع البعيد ) لفؤاد التكرلي، فقد استخدم فيها السرد الداخلي المعقد والاهتمام بالتفاصيل النفسية للشخصيات، مع التركيز على تفكيك الهوية الفردية والجماعية في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية في العراق.
2. (واو الصغرى) لسعد محمد رحيم، وفيها يتداخل السرد التقليدي بتقنيات ما بعد الحداثة، حيث تعتمد تعدد الأصوات وتداخل السرديات، مما يخلق صورة معقدة للتاريخ والواقع.
3. (أصوات من هناك) لنعيم آل مسافر، وفي هذه الرواية نجد التداخل بين الواقعي واللامعقول، عبر أنسنة المكان وتعدد الرواة، واستخدام الموروث الميثولوجي وجعله جزءا فاعلا في تنامي الحدث السردي.
وكل ما ذكرناه من نماذج لروايات ما بعد الحداثة ما هي إلا جزء يسير من كم كبير لا يسع المجال لتقصيه أو التمثيل به.