من وحي ذكريات ولادة رسول الله والإمام الصادق وتأسيس «الدعوة»

العراق 2024/09/22
...

 * نوري المالكي  


بسم الله الرحمن الرحيم
((يا أيُّها النبيُّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً))
ابتداء؛ نبارك للأمة الإسلامية ومرجعيتنا الدينية الرشيدة وشعبنا العراقي الكريم، ذكرى ولادة خاتم المرسلين.. نبيّ التوحيد والوحدة والرحمة والسلام، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحفيده الإمام العظيم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، الذي تسمى مذهب أهل البيت باسمه، وأسبوع الوحدة الإسلامية، كما نبارك للدعاة وأنصارهم وتيار «الدعوة»، الذكرى التاسعة والستين لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية.

   إن ذكرى ولادة الرسول الكريم تكرِّس في وعي الأمة وذاكرتها، حقيقةَ أنّها أمةٌ واحدةٌ بكل مذاهبها وطوائفها، وأن مصير أبنائها واحد، وعدوّهم واحد، وأنّ التحديات التي يواجهونها هي تحديات مشتركة؛ لأن مفهوم الأمة الواحدة هو مفهوم قرآني ثابت راسخ، وهو الوجه الآخر لمفهوم جماعة المسلمين، التي تحتضن كل من يشهد الشهادتين ويقرّ بدلالاتهما، حتى إن حاولت المدارس التكفيرية إخراج غيرها من المسلمين من إطار الأُمة، عبر فتاوى التكفير والدعاية الطائفية والإرهاب النفسي والمسلح، وهي تبقى محاولات بائسة تتعارض مع مبادئ الإسلام وشريعته، وتواجَه برفض قاطع من الأغلبية الساحقة للأمة وفقهائها ورموزها، بشيعتها وسنتها وبكل المسلمين الآخرين، وهو ما يعني أن اختلاف قراءات المسلمين لثوابت الإسلام العقيدية والفقهية القائمة على نصوص القرآن والسنة الشريفة، ولتاريخ المسلمين، لا تؤدي إلى خروج مذاهب المسلمين وطوائفهم وأنظمتهم الاجتماعية الدينية عن دائرة الإسلام العامة، وما يترتب على هذه الحقيقية الشرعية من حرمة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ووحدة مصائرهم.  
    كما أن الآخر الديني والعقيدي والفكري، ولا سيما المخاصِم والمعادي؛ لا يفرِّق بين المسلمين في خصومته وتآمره؛ لأنه ينظر إلى الإسلام وعقيدته وشريعته على أنها منظومة واحدة، ويعمل على استهدافه بكلِّيّاته وغاياته وأهدافه، وعلى استهداف أتباعه، بغض النظر عن اختلاف مذاهبهم، ولطالما كان هذا الآخر يسمي المسلمين بـ «المحمديين»، أي أتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إدراكاً منه بأن المسلمين من كل المذاهب والطوائف هم أمةٌ واحدة، يؤمنون بإلهٍ واحدٍ ونبيٍّ واحدٍ وكتابٍ واحدٍ وقبلةٍ واحدة. صحيحٌ أنّ هذا الخصم يعمل باستمرار، وبكل الطرق، على استغلال الخلافات العقيدية والفقهية والتاريخية بين المسلمين، من أجل تحويلها إلى بؤرِ توترٍ وفتنةٍ وصراعاتٍ ميدانية، وهو ما كان ينجح فيه أحياناً، بفضل وجود القابلية لدى بعض المسلمين على تحويل الخلافات إلى صراعات ومنطلقات للإقصاء والعدوان والتكفير والإرهاب.
    وبالتالي؛ فإن رسول الله هو محور وحدة الأُمة وترابطها وتراصها، ومن سنته الشريفة نستلهم تعاليم التواد والتراحم والتعاضد بين المسلمين وبين أبناء الوطن الواحد. وكما أن رسول الله هو محور وحدة الأُمة؛ فإن حفيده الإمام جعفر الصادق، الذي نعيش ذكرى ولادته أيضاً، هو محور وحدة أتباع مدرسة آل البيت، سواء في إطارها العالمي العام، أو في إطار أتباع المذهب في الوطن الواحد؛ فقد كان الإمام الصادق الشخصية التي أجمع أتباع آل البيت على الالتزام بمحوريتها وقيادتها الدينية والزمنية، بل كان أيضاً إماماً ومُعلِّماً لأئمة المذاهب الإسلامية الأخرى، وهو ما كان يشهد به الإمام مالك والإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي وغيرهم.
    وفي مسيرة أتباع مدرسة أهل البيت؛ تظهر علامة دالة تتمثل في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وهي مناسبة مهمة، نستذكر من خلالها الرجال الاستثنائيين الأفذاذ، الذين لخّصوا بوعيهم؛ قروناً من التراكمات الاجتماعية والسياسية والدينية، وعبّروا عن الحاجات النظرية والعملية للأُمة وساحاتها، حين بادروا الى تأسيس حراكٍ إسلاميٍّ تنظيميٍّ متفرِّد، حمل اسم «حزب الدعوة  الإسلامية»، وكان في مقدمتهم القائد المؤسس السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وعدد من أصحابه وتلاميذه، والذين نستلهم اليوم وغداً من عطاءاتهم وجهودهم وتضحياتهم، خيرَ الزاد.
    لقد ظلت مسيرة حزب الدعوة الإسلامية متميزةً بالعطاءات على كل الصعد؛ فمن عطاءِ الدم الزاكي الذي سال من أجل العقيدة والوطن، منذ العام 1971، وحتى شهداء مقاومة الإرهاب خلال الأعوام الأخيرة، وهو عطاءٌ يندر مثيله بين كل الجماعات المنظمة في العالم، إلى عطاءِ الجهاد والمقاومة والكفاح في مواجهة أعتى نظامٍ قمعيٍّ عنصريٍّ طائفي، وهو ما كان يشهد به العدو نفسه، إلى عطاء الفكر والمداد الذي تشهد له الحوزات العلمية والجامعات ومراكز الدراسات والمكتبات، إلى عطاءِ التبليغ والدعوة والإرشاد الذي ملأ صداه مدن العراق وقصباته، وامتدّ إلى كثير من دول العالم، إلى عطاءِ التنظيم والعمل الإسلامي الجماعي الذي أسّس لثقافة التنظيم في الوسط المتدين ولمنظومة النخب العقيدية المثقفة، وأشاد في كثير من البلدان الإسلامية صروح التيار الإسلامي الحركي الذي ظل يعبِّئ الأمة باتجاه قضاياها، حيث لا يزال هذا التيار النوعي الواعي يمارس واجباته ويعمل لتحقيق أهدافه كما رسمها آباؤه ورعاته في تلك البلدان، وإن تغيرت المسميات والهياكل والشعارات.  
      وبالتالي؛ فإن الأعوام التسعة والستين التي قطعتها مسيرة حزب الدعوة الإسلامية، كانت أعواماً معبّأة بالتضحيات والعطاءات المركبة؛ فلم يمرّ يومٌ في مسيرة الكدح هذه دون أن يكون فيها زرعٌ جديد لتضحياتٍ جديدةٍ ولفكرٍ جديدٍ وحراكٍ جديدٍ وإنجازٍ جديد، وهو مؤشر أساس على دينامية حراكات «الدعوة» وقدرتها على الإبداع والتجديد والمراجعة والمحاسبة؛ فمراجعة «الدعاة» الدائمة لمسيرة الحزب، ومحاسبة الحزب نفسه، ومحاسبة «الدعاة» أنفسهم، والرقابة الدؤوبة على عمل الحزب من قبل المرجعية وتيار «الدعوة» والأُمة؛ تبقى هي الآليات التي تعزز قدرة الحزب على تجديد متغيراته الفكرية وسياقات عمله وهياكله التنظيمية، وتجاوز محنه ونكباته وكبواته، وتقيه مزيد الأخطاء، وتحصِّنه من تكرارها ومن معاودة الإخفاقات.
      وظلّت قدرة الحزب على المراجعة والتجديد؛ تمنحه أيضاً قوةً وعزيمةً أكبر للاستمرار في ممارسة واجباته والسعي لتحقيق أهدافه، بما في ذلك سلوكه الثقافي والاجتماعي والسياسي بعد العام 2003، وخاصة على صعيد إعادة بناء العراق ونظامه السياسي ودولته وحكمه، والعمل الفاعل في مفاصل المجتمع ومكوِّناته، رغم صعوبة هذه العملية وحجم أعبائها، كونها تقام على أنقاضِ نظامٍ دكتاتوريٍّ فرديٍّ شمولي، وحكمٍ فاسدٍ فاشل، ودولةٍ منهكةٍ مدمّرة، ووسط مجتمعٍ كان يعاني أبشع ألوان القمع والاضطهاد وخنق الأنفاس، فضلاً عن آثار الحصار الذي تسبّب به هذا النظام، وحرم المجتمع العراقي كثيراً من مقومات العيش الطبيعي.
    وتتطلب منا المرحلة التي نعيشها؛ السير بخطى واثقةٍ مدروسةٍ قوية، مقرونةٍ بالتوكل على الله (تعالى)، والتمسك بنظرية «الدعوة» وفكرها، واستلهام دروس الاستقامة والتضحية والإصلاح من حياة «الدعاة» المؤسسين والقادة والشهداء؛ لنحقق من خلالها ما نصبو إليه من غايات وأهدافٍ تصب في مصلحة أُمتنا ووطننا وشعبنا وجمهورنا.
    إنّ واقعنا الإسلامي والوطني يواجه اليوم تحدياتٍ كثيرة، على المستويات السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية، ابتداءً بالمآسي التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني على أيدي العصابات الصهيونية، وليس انتهاءً بالموجات الغربية المهاجِمة، التي تستغل بعض الثغرات في مناعة مجتمعاتنا، لتستهدف قيمنا الدينية وثقافتنا المجتمعية، عبر بث أفكارها وسلوكياتها المنحرفة، في محاولةٍ لإحداث استحالةٍ ثقافية مجتمعية، لكي تتقبل مجتمعاتنا هذه الأفكار المنحرفة المهاجِمة، وتتشبّه بسلوكياتها، وتتداول مفاهيمها ومصطلحاتها، وتتحوّل الى أمرٍ واقعٍ بمرور الزمن، مفروضٍ على الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها، وعلى المجتمع وتقاليده، وهي في المجمل أفكارٌ وسلوكيات تقود الى الانحلال الأخلاقي، والفساد الفردي والاجتماعي، وتدمير الأُسرة ومقومات المجتمع السليم.
     والأغرب من كل ذلك؛ أن تقوم بعض الدول الغربية بمعاقبة الدول والمجتمعات المسلمة التي تريد، عبر التمسك بتعاليم دينها وقيمها الأخلاقية وأعرافها، وعبر إصدار القوانين التحصينية ذات الصلة؛ صيانة نفسها من هذا الانحلال القيمي والفساد الأخلاقي والتحول الاجتماعي. ولعل هذه التدخلات والعقوبات؛ هي أسوأ أنواع الاستكبار والغطرسة والهيمنة، بطبعتها الثقافية والفكرية، وهو ما سنبقى نستنكره ونواجهه ونقاومه، حفاظاً على الأمن الأخلاقي والديني لأُسرنا ومجتمعاتنا.
      وحيال هذه التحديات؛ ينبغي أن يكون الصف الإسلامي موحّداً، وأن يكون المسلمون يداً واحدة، بكل مذاهبهم وتوجّهاتهم الفكرية، وأن يكون الصف الوطني موحداً أيضاً؛ لأنّ التحديات الأمنية والسياسية المقترنة بموجات الاستحالة والتحريف واستهداف المجتمع المسلم والأسرة المسلمة والفرد المسلم؛ لا تميِّز بين مسلم وآخر، وطائفة دون أُخرى، بل ولا تميِّز بين مسلم ومسيحي وصابئي وإيزدي، وبين عربي وكردي وتركماني وفيلي وشبكي وآشوري وكلداني، لطالما يعيشون في ظل بيئة سليمة تتمسك بالقيم والأعراف والتقاليد الدينية والإنسانية الأصيلة. وحيال ذلك؛ تبقى أيدينا ممدودة لجميع شركاء الدين والمذهب الوطن، من أجل التفاهم والتعاون والتعاضد؛ لما فيه تحقيق المصالح العليا لأُمتنا ووطننا وشعبنا.
    وإذ نعيش في هذه الأيام ذكريات ولادة الرسول الأعظم والإمام الصادق وتأسيس حزب الدعوة الإسلامية؛ فإننا نؤكد على أن طريقنا العقيدي والوطني الشائك؛ سيبقى يستلهم من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته (عليهم السلام) دلالات الثبات على القيم والتعاليم والأخلاق، ومعاني الصمود والمواجهة والمقاومة بوجه كل الموجات التي تستهدف أُمتنا وواقعنا الإسلامي والوطني، سواء في الجانب الديني والفكري والثقافي أو الجانب السيادي والسياسي أو الجانب الاجتماعي أو الجانب الاقتصادي والمعيشي، وهي ذاتها الأسس التي قام عليها حزبنا المجاهد وتربى عليها «الدعاة» الميامين. وندعو الله (تعالى)، ببركة هذه المناسبات العطرة، أن يحفظ أمتنا وعراقنا وشعبنا من كل سوء ومكروه.
    ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)).

* الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية