مصطفى أحمد
يمثّل القاص العراقيّ نزار عباس (1936 - 2003) ، إحدى صور شخصيَّة "بارتلبي" التي كتبها هرمان ملفل في روايته "بارتلبي النسّاخ".
هذه الرواية صدّرت مفهوم عدم للكتابة، بارتلبي، يتبنى موقف "أفضّل ألا أفعل"، رافضًا المشاركة في الحياة العمليّة، ومع مرور الوقت ينغمس في عزلة تامة. هذا الرفض للكتابة، أصبح رمزًا "لمتلازمة بارتلبي" التي تصيب الكتّاب الذين يتوقفون عن الكتابة لأسباب تتعلق بفقدان الحافز أو الشعور بعدم جدوى الكتابة ويمتنعون عنها بعد نشر كتاب أو عدّة كتب.
دفعت شخصيّة بارتلبي الإلهام للكاتب الإسباني "أنريكه فيلا – ماتاس" لتأليف رواية كاملةٍ تتكلم عن الأشخاص الذين أُصيبوا بهذه المتلازمة وتركوا الكتابة، وهو أحدهم، لينشرها بعد ثلاثٍ وعشرين سنةً من التوقّف عن الكتابة بعنوان "بارتلبي وأصحابه". وقد يكون أبرز أصحاب بارتلبي هو الشاعر الشهير "رامبو". عند تصوير الكتّاب العراقيين الذين يمثّلون أصحاب بارتلبي، يبرز لي نزار عباس كأشهر وأبرز كاتبٍ يحمل هذه
الصفة.
يضع الناقد عبد الإله أحمد القاصّ نزار عباس ضمن "الجيل الضائع" الذي برز نهاية الخمسينات وبداية الستينات، ويُعتبر من الكتّاب الذين تسلّموا راية القصة من جيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي إلى جانب روزنامجي، والصقر، ونزار سليم.
نشر عباس مجموعة قصصية واحدة بعنوان "زقاق الفئران" في السبعينات، وعاد ليضيف لها قصصًا وينشرها في الثمانينات عند دار الشؤون الثقافية في بغداد. وكتب المقالات وقصيدة النثر، ومن ثمّ استقرّ على القصص. يظهر التأثر الواضح في قصصه بالوجودية التي كانت منتشرةً بين المثقّفين العراقيين في ذلك الوقت، وقد تكون هي الصفة المُسبّبة بصورةٍ غير مباشرة بتركه للكتابة ويأسه منها لعدم رؤيته أيّ جدوى فيها. ويبدو تأثير الاتجاه الوجودي في القصة العراقيّة متركزًا على كاتبين أو ثلاثة قبل ثورة الثامن والخمسين في العراق. بينما ينمو ويتسع بعد ذلك في الستينيات والسبعينيات متجهًا اتجاهًا واثقًا ومسيطرًا على الجو الثقافي أحيانًا، كما أنّ القصة العراقية في فترة الستينيات باتجاهها التجريبي قد خضعت لتأثيرات المدرسة النفسانيّة، والفلسفة الوجوديّة والعبثية، وركّزت اهتمامها على الجانب الروحي والنفسي لأبطالها المأزومين غير العاديين والذين كانوا في الغالب من المثقّفين المتوحّدين.
يظهر القلق والاشمئزاز واضحًا في قصص نزار عباس، ويكون الصراع بين البطل ونفسه، أو البطل ومحيطه، طاغيًا ومتكررًا في أغلب مواضيع قصصه. وتنازعت في قصصه صراعات الالتزام بالخط العام للثورة كقصّة "مياه جديدة" أو الالتزام بخطّ التكرلي القلق المأزوم الموضّح لصراع البرجوازي المثقّف وأزمته الحضارية المرتبطة بنمو المدنية وشمولها وزحف تأثير المجتمع الصناعي الحرفيّ عليها وتحويلها من قريةٍ كبيرة ذات مجتمع سكوني إلى مدينةٍ حقيقية بكل أزماتها ومجتمعها الحركي.
تظهر الشخصيّة الرئيسيّة عند نزار عباس بأنها تمثّل نزار عباس نفسه، وهو بهذا يُثبت أنه كان يستند على حياته الخاصة في تكوين قصصه وأحداثها. نزار عباس لم يكن مهتمًّا بتجارب الآخرين كما فعل زملاؤه. بينما اتّجهوا لاستلهام تجارب إنسانيّة واجتماعيّة وشخصيّة، بل وإبداعية من محيطهم، ظلّ نزار يركّز فقط على تجاربه الخاصة. زملاؤه كانوا يستلهمون أساليب الكتابة من خلال مراقبة ما يحدث حولهم، أما نزار فكانت معاناته وأزماته الشخصيّة هي مصدر إلهامه الوحيد. قصصه تعكس سيرته الذاتية المليئة بالاعترافات الشخصيّة، كما يظهر بوضوحٍ في قصّته "السرير رقم 31" التي يسرد فيها تجربته مع المرض والموت.
نزار كان بطل قصصه؛ الانطوائي المليء باليأس الذي تلاحقه وساوسه وتتراكم عليه همومه. يأخذه كأسه إلى لحظاتٍ من النسيان، مجسّدًا سيرته الذاتية التي يراها محور توازن حياته والعالم من حوله.
يستخدم نزار عباس المياه كرمزيّةٍ عن الحياة والمدينة التي يعيش فيها، كما في قصته "مياه جديدة": "مدينتنا تدخل في رأسي الصغير، باتساعٍ بحريٍّ ساحق". ويعيد تكرار المياه بصيغٍ متعددةٍ في قصصٍ أخرى. في قصته "لُعبة الدومينو" تظهر عبثية الحياة صارخة عند نزار، كونه يمثّلها بلعبة الدومينو، والتي تكون الشخصيّة الرئيسية فيها اسمها "وحيد". وحيد أفضل من يلعب الدومينو في مقهى النهر، لا يستطيع التغلب عليه أحد. "كان ينصرف إلى اللعبة بكل حواسه، لاهياً عن كل ما حوله، يظل محدقاً في قطع "الدومينو" أو في وجه منافسه وأصابعه وتعابير وجهه، كأنه يريد أن يعرف بدقة ماذا يحمل خصمه، وأية قطعة سيرمي. وكان حين يصحّ توقعه، ويرمي خصمه بالقطعة التي حدسها، يبتسم السيد وحيد بهدوء، ويشعّ من عينيه بريق انتصار غريب". ويرجع نزار لاستخدام رمزيّة الماء مرةً أخرى ليُعبر عنها هذه المرة بالحياة التي تبتلع الإنسان وتنقله حيث العدم. عندما يدخل الشاب الذي سيمثّل نهاية السيد وحيد، يُقدّم له علبة أحجار دومينو جديدة، وعند ذكر الرهان يقول الشاب نائل للسيد وحيد: "ثم التفت إلى النهر وقال: «هل ترى النهر يا سيد وحيد؟! إنه في ذروة الفيضان ولا يخلو من خطورة. ولكن ما العمل؟ إنني أحب المغامرة!»", ويترك له خيار التراجع وعدم اللعب، لكن عدم مبالاة وحيد وعبثيته تدفعه ليخبر نائل بأنه لا ضير من الخسارة لأن ملابسه ليست أنيقة! عند اشتداد اللعب وتصاعد أصوات ضرب قطع الدومينو، يتصاعد صوت تضارب موجات النهر، وفي النهاية يقاطع كل شيءٍ رمي السيد وحيد نفسه في النهر. "لقد خسر السيد وحيد اللعبة. وقبل أن يقفز إلى النهر سألني عما إذا كنت أستطيع أن أمنحه فرصةً ليلعب معي اليوم أو غدًا لعبةً أخرى أكثر ذكاء كالپوكر أو الشطرنج، فرفضت ذلك، وقلت له: على المرء أن يتقن لعبةً واحدة، حتى لو كانت سخيفة". وبهذا اليأس والعبثية ينهي نزار قصته.
من خلال اليأس والقلق الطاغي على أبطال عباس، الذين يعانون من صراعاتٍ داخلية وانعزالٍ عن حياتهم الخارجية، والتركيز على عبثية الحياة، نستنتج أن هذا كله لم يكن مجرد موضوعٍ أدبي، بل انعكاس لحالة نزار النفسيّة والفكريّة. يمكن القول إن هذا الإحساس بعدم الجدوى قد تسرب إلى عباس نفسه، لدرجة أنه رأى في الكتابة ذاتها عبثًا لا طائل منه. بذلك، أصبح نزار عباس واحدًا من أولئك الكتّاب الذين فضّلوا الصمت، مُمثّلًا لمتلازمة بارتلبي التي جعلت من عدم الكتابة موقفًا فكريًا وجوديًا في حد ذاته.
- دراسات في القصة القصيرة والرواية (1980 - 1985) - أحمد خلف وعائد خصباك.
- رحلة مع القصة العراقية لباسم عبد الحميد حمودي.
- تأثير الوجودية على الاقصوصة العراقية - مقال منشور في مجلة الكلمة العدد السادس لسنة 1972.
- نزار عباس: العمل المنفرد والذات المنفردة - مقال منشور في ملاحق المدى - فاروق سلوم.
- دراسة في مجموعة (زقاق الفئران) القصصية لنزار عباس - مقال منشور في ملاحق المدى - د. عبد الكريم السعيدي.