المدلولات الثقافيَّة لمناظرات انتخابات الرئاسة الأميركيَّة
جواد علي كسار
بالرغم من أن المناظرات لا تملك تأريخياً تلك العراقة في معادلات انتخابات الرئاسة الأميركية، لكن بات لها حضورها المؤثر في اتجاهات الرأي العام الأميركي خلال العقود الخمسة الأخيرة، خاصة بعد ما حصل أخيراً بين الرئيس جو بايدن والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، عندما استطاع الرئيس السابق أن يهزم الرئيس الحالي في المناظرة التي جرت بينهما بمدينة أتلانتا بولاية جورجيا أواخر شهر حزيران الماضي، وأدّت إلى تراجع حاد في شعبية بايدن بعد أدائه الضعيف المتعثر، ما قاد نهاية المطاف إلى استبعاد الحزب الديموقراطي له، واستبداله بنائبة الرئيس المرشحة الفعلية كامالا هارس، وسط مراهنات من ترامب على أن يلحق بكامالا ما كان قد ألحقه سابقاً برئيسها بايدن، بيدَ أن ذلك لم يحصل.
لجنة المناظرات الرئاسية
في نطاق تأريخية المناظرات الرئاسية قد يمكن الإشارة إلى وقائع عريقة زمنياً، كالتي حصلت بين الرئيس السادس عشر أبراهام لينكولن (في الرئاسة: 1861 - 1865م) ومنافسه ستيفن دوجلاس، إذ جرت بينهما سبع مناظرات في شهور آب وأيلول وتشرين الأول سنة 1858م. بيدَ أنَّ هذه الواقعة بقيت فردية ولم تتطوّر إلى عُرف في الحياة السياسية الأميركية ولم يُراكم عليها. لكن الأمر اختلف بعد عام 1960م عندما شهد يوم 26 أيلول من العام نفسه، مناظرة بين مرشحي الحزب الديموقراطي جون كينيدي (في الرئاسة: 1961 - 1963م) والجمهوري ريتشارد نيكسون (1913 - 1994م) أعقبها ثلاث مناظرات أُخر في شهر تشرين الأول، ساهمت نهاية المطاف بتعديل فرص كينيدي وفوزه بالرئاسة.
بعد قطيعة زادت قليلاً على عشر سنوات استؤنفت المناظرات عام 1976م، وتحوّلت إلى عُرف دائم في منافسات انتخابات الرئاسة كافة دون استثناء يُذكر، بل امتدّت من مرشحي الرئاسة لتشمل نوابهم أيضاً، وصار لها جهة مختصة للإعداد لها وتحضيرها وتنظيمها وتولي تنفيذها، هي: «لجنة المناظرات الرئاسية»، التي أُنشئت سنة 1987م. وهذا ما حصل أخيراً وشهدناه مع آخر مناظرة بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديموقراطية كامالا هارس مساء الثلاثاء الماضي 10 أيلول الحالي (بتوقيت شرق الولايات المتحدة) إذ جاءت الحصيلة بادّعاءات نصر وهزيمة متبادلة من كليهما، وإن كان الواقع سجّل تقدّماً لهارس على ترامب، ولو بطريقة تقليص الفوارق بينهما، بحسب استطلاعات ما بعد المناظرة، علماً بأنَّ من العلامات الفارقة لهذه المناظرة كما التي سبقتها بين بايدن وترامب، أنها جرت أيضاً خارج نطاق سلطة «لجنة المناظرات الرئاسية».
من الدلائل الراجحة على أنَّ ترامب لم يحقق نصراً حاسماً على غريمته الديموقراطية، أنه لم يُظهر ميلاً لمناظرة أخرى، بعكس كامالا التي شجعتها معطيات ظهورها للمبادرة إلى الهجوم، عندما أعلنت أنها ليست مستعدة لمناظرة جديدة مع ترامب وحسب، بل هي تطالب بمناظرة ثانية وربما ثالثة، قبل يوم الاقتراع الرسمي في الثلاثاء الأول من شهر تشرين الثاني المقبل.
إعادة إنتاج الحلم الأميركي
المناظرات عمل يقع بين الدعاية والسياسة؛ أو على نحوٍ أدق هو استثمار في الدعاية لبلوغ مآرب في السياسة. وهي في الانتخابات الرئاسية الأميركية وسيلة دعائية مهمّة لتقوية مركز أحد المرشحَين سياسياً. حين نقول إنَّ المناظرات فعل إعلامي وحتى دعائي، فلأنَّ عناصره تنتهي بالتفكيك إلى مكوّنات الإعلام والدعاية، من زاوية توفّر المناظرات على العناصر الأساسية المكوّنة، وهي الوسيط الفاعل (وسيلة الإعلام) والبطل (المرشّح) والجمهور المستهدف، بالإضافة إلى مهارات وسائل الأداء وتقنياتها.
بالتأكيد تتمثل الصورة المراد صناعتها من وراء ذلك كله، بالتركيز على «الحلم الأميركي» وإعادة إنتاجه مرّة بعد أخرى دون كلالة أو ملالة. اللوحة المكثفة لعناصر هذا الحلم أنَّ أميركا كانت ولم تزل أرض الفرص، والثروة، والعصامية، والنزعة الفردية، وأننا «نحن من يقرّر مصيرنا» والعالم كله يدور في فلكنا وبين أيدينا (يُنظر في صياغات مبسطة لعناصر هذا الحلم: وسائل الإعلام والمجتمع، ص: 24).
بشأن تداعيات الحلم الأميركي والإصرار على إعادة إنتاجه بلباس جديد في كلّ مناسبة، يمكن الكلام عن مكتبة في أدبيات هذا الحلم والصياغات المعبّرة عنه، برزت في أعمال بارعة كان أروعها بحسب متابعتي، كتاب عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل كروزييه (1922 - 2013م) الذي صدرت ترجمته بالعربية، بعنوان: «الداء الأميركي» إذ يرسم لنا في القسم الأول من الكتاب، تمثلات «أميركا السعيدة» عبر أحلام ثلاثة مترتّبة على بعضها، هي الحلم الاجتماعي، وحلم الحقيقة، وأخيراً حلم العقلانية (الداء الأميركي، ص: 11 ـ 16).
كذلك لا أستطيع التقليل أبداً من أهمية مشروع نظري آخر عن «الحلم الأميركي» تزامناً مع كتاب كروزييه، صدر للمفكر العربي عبد الوهاب المسيري، بعنوان «الفردوس الأرضي» تناول قسمات هذا الحلم وتجلياته، ودور نسق الحياة الأميركية في تغذيته وإعادة إنتاجه مرّة بعد أخرى، بالإضافة إلى ما تنهض به مختلف وسائل السياسة والإعلام في أميركا، لتعزيز قوّة هذا الحلم، حدّ تحويله إلى «أيديولوجية» للحياة الأميركية، وفلسفة لوجود أميركا نفسها، إذ لا دوام لحياة هذا البلد دون «الحلم الأميركي».
النسخة الإعلامية للحلم
بنحوٍ عام يعمل الإعلام الأميركي بشكلٍ متوازٍ مع السياسة الداخلية الأميركية، في صناعة هذا الحلم أو إعادة إنتاجه إعلامياً خاصةً في المناسبات المهمّة مثل الانتخابات الرئاسية، بحيث يخلق حالة تحشيد وتعبئة هائلة للمواطن الأميركي ممتدّة على نطاق واسع، من الدلالات النفسية والثقافية والاجتماعية للدعاية الأميركية نفسها.
ربما كان من أمثلتها البارزة على هذا الصعيد، المحاولة التي قدّمها لنا الكاتب الأميركي آرثر آسا بيرغر، المختص الذي له أكثر من (60) كتاباً في مجال الاتصال والإعلام. ففي كتابه المعنون: «وسائل الإعلام والمجتمع.. وجهة نظر نقدية» تحدّث بيرغر عن أهمية الإعلام والدعاية ووسائل الاتصال الحديثة في مجتمع لا يقرأ؛ كالمجتمع الأميركي. بحسب الكتاب فإنَّ (32 %) من الشباب الأميركي المراهق لا يقرؤون أبداً، مقابل (50 %) يقرؤون أحياناً، ومن ثمّ يبقى وعي هؤلاء رهن شُحن الدعاية والإعلام الصوري والمرئي والمجازي، بإيقاعاته السريعة المتنافرة التي يقوّض بعضها بعضاً، بعيداً عن مهارات التفكير العميق بسمتَيْه التحليلية والنقدية (المصدر، ص: 31).
في هذا النسق من الإعلام الذي وزّع منظّر الإعلام الكندي مارشال ماكلوهان وسائله، إلى وسائل إعلام «ساخنة» و»باردة» تغدو الوسيلة هي الرسالة. بمعنى أنَّ الوسيلة أصبحت أكثر أهمية من المضمون الذي تحمله وتبشّر به (وسائل الإعلام والمجتمع، ص: 38).
التضليل الإعلامي
في ضوء ملاحظة مارشال ماكلوهان أعلاه، حصل انقلاب في عمل الإعلام بتبدّل موقع الوسيلة والمضمون، حينما تقدّمت الوسيلة على المضمون، وأضحت أكثر أهمية من النص الذي تحمله. في ملاحظة تكميلية سجّل ماكلوهان أنَّ الإعلام الإلكتروني فاقم هذه المشكلة وضاعف من تبعاتها السلبية. فالإعلام المجازي أو الإلكتروني يقوم على مبدأ الشحن الموضعي العاطفي و: «إعطاء الكلّ بدفعةٍ واحدة»، وذلك بعكس المادّة المطبوعة مثلاً، وهي تقوم على مبادئ المنطق، والعقلانية، والترابطية وأسلوب التخاطب الفردي، ما يجعل الفارق بين الأسلوبين هو المسافة الواقعة بين الشحن العاطفي والتحشيد الجماعي من جهة، والتفكير التحليلي النقدي العميق من جهة أخرى (وسائل الإعلام والمجتمع، ص: 40).
ليس هذا وحده بل راحت وسائل الإعلام التقليدية والرقمية تتلاعب بالمعاني وتتجه إلى صناعة الأفكار بما يروق لها، عبر توظيف الإعلام للعلامات والإشارات في النظام الذي اقترحه اللغوي السويسري المشهور فرديناند دي سوسير (1857 - 1913م) من خلال إقحام النسقيات السردية أو القصص الخاصة وتوظيف ماهر للمخيال والحكايات الخرافية، بحسب ملاحظة الفلوكلوري الروسي فلاديمير بروب (1895 - 1970م) والأنثروبولوجي الفرنسي المعروف ليفي شتروس (1908 - 2009م) (وسائل الإعلام والمجتمع، ص: 53، 57).
لذلك غالباً ما يقع المجتمع الأميركي ضحية «التضليل الإعلامي» نصاً؛ بحسب أستاذ مادّة الاتصال هربرت شيللر، مؤلف الكتاب المعروف: «وسائل الاتصال والإمبراطورية الأميركية».
المتلاعبون بالعقول
ليس مصطلح «المتلاعبون بالعقول» لفظاً هجائياً ينتمي إلى أدبيات العالم الإسلامي أو الثالث أو المناهض للمركزية الغربية، بل هو عنوان كتاب آخر من الكتب المعروفة لأستاذ مادة وسائل الاتصال بجامعة كاليفورنيا، وعالم الاجتماع الأميركي هربرت شيللر (1919 - 2000م). وهو أيضاً صاحب كتاب: «الاتصال والهيمنة الثقافية». يصف شيللر أميركا بأنها مجتمع منقسم يمثل «التضليل الإعلامي» فيه إحدى الأدوات الرئيسة للسيطرة. كما يسجّل أيضاً أنه: «ليس من المستغرب أن يبلغ التضليل الإعلامي بوصفه أداة هيمنة؛ أعلى درجات تطوره في الولايات المتحدة»، وذلك في المقدّمة الصادمة للكتاب، وقد خصّصها لهندسة «الصور والمعلومات» التي تُمارس بمهارة من قبل مديري أجهزة الإعلام في أميركا، ومن ورائهم أصحاب الثروات ورؤوس الأموال (المتلاعبون بالعقول، ص: 9، 11).
إذا كان شيللر قد ذهب وصفياً إلى أنَّ أشد صور التضليل هي تلك الناشئة من التحكّم بتدفق المعلومات والصور، وصناعة سرديات أو قصص متوائمة وظيفياً مع إرادة المتحكمين فعلياً بالسياسة، وملأ الكتاب بالأمثلة والتطبيقات؛ فإنَّ أهمّ ما قدّمه برأيي ليس الجانب المعلوماتي الوصفي على أهميته الفائقة للقارئ خارج الولايات المتحدة، بل هو التحليل الإطاري الجامع ونظرية التفسير التي خرج بها، عندما ضرب بحذرية وعمق الأساطير الخمس التي يفترض أنها تؤسّس «المضمون الإعلامي» في أميركا، وأنَّ الأميركي ليس مقتنعاً بها وحسب، بل تعدّها مخيلته الوطنية وممارسات معايشته اليومية، في طليعة عناصر «الحلم الأميركي».
الأساطير الخمس
الأساطير الخمس التي قصدها شيللر وهي تمثل البُنية التحتية لمخيال الوعي الوطني الأميركي، والملامح الجامحة لبعض تجليات الحلم الأميركي نفسه؛ هي باختصار شديد:
1ـ أسطورة الفردية والاختيار الشخصي. الطابع الخصوصي في كلّ مجالات الحياة هو الأمر العادي في أميركا، يعكس أسلوب الحياة الأميركية من أدقّ تفاصيلها حتى أعمق معتقداتها وممارساتها الشعورية. يسجّل شيللر ذلك ليقول بأنَّ أعظم انتصار أحرزه «التضليل الإعلامي» هو التلاعب بالخصوصية والحرية، حتى غدت: «حقوق الفرد المطلقة ليست سوى أسطورة» (المتلاعبون بالعقول، ص: 17 ـ 20).
2ـ أسطورة الحياد. يستعرض أبرز وجوهه متمثلةً بمؤسّسة الرئاسة، وبأجهزة الإعلام، والكونغرس، والنظام القضائي، بلوغاً إلى الاقتصاد والعلم، ليقرّر بأن أعلى منجز حققه «التضليل الإعلامي» على هذا الصعيد، هو خلق واقع زائف يتمثل بالإنكار الدائم لوجود التضليل، عبر الاتكاء إلى عكاز الحياد، وأنَّ الحكومة والحكومة القومية بوجه خاص، هي: «ركيزة أسطورة الحياد» (المتلاعبون بالعقول، ص: 20 ـ 23).
3ـ أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة. دور التضليل هنا هو التلقين في السلوك وصناعة ثقافة تُقنع الأميركي بأنَّ ما ينتشر حوله من علاقات الصراع كامنة في الجبلة والتكوين الإنساني، وليس في ما يسود حياته من علاقات المال والسلطة والقوّة. وهذا هو السرّ من وراء «إيديولوجية» مناهضة الإيديولوجية في النظام السياسي الأميركي، والاستناد إلى «صناعة ثقافية» تنسب نزعات كالعدوانية والتوسعية والاستغلال، إلى الطبيعة الإنسانية، وليس إلى فعل الإنسان وإرادته واختياراته العملية في السلطة والنظام ومنهج الحياة (المصدر، ص: 23 ـ 28).
4ـ أسطورة غياب الصراع الاجتماعي. يتمّ التركيز دائماً على مستوى الإعلام وتوجيه الرأي العام، إنَّ الصراع الاجتماعي هو من لوازم المجتمعات الثورية ومن نواقصها، إذ: «ينكر المتحكمون في الوعي إنكاراً مطلقاً وجود الصراع الاجتماعي» بوصف هذا الإنكار جزءاً من مشروعات: «توجيه العقول» حسب شيللر، وذلك تكتماً على التنافرات العرقية والسلالية والطبقية والثقافية داخل المجتمع الأميركي، كجزء من تكريس شعوري ولا شعوري لمحمولات «الحلم الأميركي» (المصدر، ص: 28 ـ 31).
5ـ أسطورة التعدّدية الإعلامية. يمكن وصف المجتمع الأميركي أنه «مجتمع وفرة» على صعيد وسائل الإعلام وأدواته، وقد تغلغلت: «هذه النظرة في أعماق أغلبية كبيرة من الأميركيين، وهو ما جعلهم سريعي التأثر بالتضليل الإعلامي الشامل». وتعزيز هذه الحالة يكون بالإيحاء الدائم ببيئةٍ مزدهرة بالتنوعين الثقافي والإعلامي، ليكون هذا الإيحاء أحد: «الأساطير المركزية التي يقوم عليها ازدهار نشاط (توجيه العقول)» بالإضافة إلى التفنن بأدوات الأداء عبر التعميم والتكرار، لتكون الحصيلة أنَّ معظم الأميركيين يخضعون إلى «إطار مرجعي» مصنوع: «يجري تنظيمه بوعي ومن دون وعي» ما يؤدّي إلى تحويل الأميركي إلى متلقٍ مُعدّ سلفاً لكي يتلقف بثقة مادّة وسائل إعلامه، رافضاً أي رؤية نقدية، تتعارض ولو قليلاً مع مزاجه المصنوع وتكوينه المؤطّر (المتلاعبون بالعقول، ص: 31 ـ 38).
الحصيلة من كلّ ذلك أنَّ بنية الثقافة الشعبية للإنسان الأميركي غدت منتجاً يتم تصنيعه؛ وأنَّ الرأي هو أيضاً تصنيع وإنتاج (المصدر، الفصلان الرابع والخامس، ص: 113 ـ 175).
نظريات التفسير
قدّم الفكر الإنساني نقداً منوّعاً للتجربة الأميركية ساهمت فيه عقول من داخل أميركا وخارجها، تناولت التجربة بالمراجعة والنقد والتحليل على أساس منهجيات متعدّدة، منها ما هو فلسفي وجودي، وديني، وثقافي حضاري قائم على أساس التمييز بين ثقافتي الشرق والغرب، أو الافتراق بين موروثي آسيا وأوروبا باعتبار تبعية أميركا ثقافياً وحضارياً إلى أوروبا، أو على أساس منطلقات منهجية اجتماعية واقتصادية وتطبيقية، وهكذا. بديهي أنَّ النقد لا يعني أبداً تجريد الحضارة الأميركية من قيمها الإيجابية والإنسانية، ودورها في التقدّم العلمي خاصةً على الصعيد الاجتماعي، بعيداً عن السياسة وانحيازاتها.
أمامي أكثر من أنموذج نقدي للتجربة الأميركية وددتُ أن أمرّ بإشارات سريعة على أحدها، وقد رافقني في حياتي الثقافية والفكرية أربعين وخمسة أعوام، هو الأنموذج الذي قدّمه العلامة الراحل عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008م) في البداية عبر كتابه العتيد «الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأميركية الحديثة» الذي اطلعتُ عليه شتاء عام 1980م، وجذبني بعمق إشاراته وصلابة أطره التحليلية وتماسك منهجه، واللفتات الرائعة التي يقتبسها من الحياة الأميركية اليومية بغزارة، وهو يعزّز بها ما يصل إليه من آراء واستنتاجات.
ثمّ تابعته بعد «الفردوس الأرضي» في جلّ- وربما كلّ- ما كتب عن التجربة الأميركية والإنسان الغربي عامة، وما نزع إليه أثناء ذلك من أُطر وثنائيات، مثل الإنسان المادّي والمثالي مقابل الإنسان الطبيعي، وثنائية المجتمع التعاقدي والتراحمي، والإنسان الطبيعي والمنفصل، وتطبيقات مفاهيمية عن نظرية التبعية الإدراكية، ورفضه لـ»إمبريالية المقولات» وقد استكمل بها جميعاً مقولاته في الكتاب الأول، عن نقد التيار الفردوسي المعادي للتأريخ والإيديولوجيا، الملتزم بفكرة التقدّم العلمي بأي ثمن.
أكتفي بهذه الإشارة العجلى مع اعترافي أنها مختزلة غير وافية بل مخلّة بمقاصد المسيري النقدية، على أمل أن تُتاح لنا العودة تفصيلاً إلى مسيرة هذا الرجل ومعايشته ورؤاه النقدية لمجمل التجربة الأميركية.