ثامر عباس
حين نتحدث عن أنثروبولوجيا المكان، فإننا نقصد بذلك تلك الشبكة المعقدة والمتداخلة من الترسبات الأسطورية والخرافية، والانتماءات القبلية والعشائرية، والتضامنيات الأسرية والقرابية، والتواضعات العرفية والأخلاقية، والاعتقادات الدينية والمذهبية، والمرجعيات التاريخية والرمزية، والأرومات اللغوية واللهجية. وهو الأمر الذي قلما انتبه إلى مراعاة أهميته وتقدير ضرورته في البحوث والدراسات من لدن الكتاب والباحثين في الشأن السوسيولوجي العراقي، لا سيما بعد تداعيات الأحداث الدراماتيكية الناجمة عن الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003، وما تمخض عنها من إشكاليات بنيوية وأزمات سياسية وصراعات سياسية وانقسامات ثقافية واستقطابات مناطقية.
ورغم كثرة المؤلفات – الثقافية والأكاديمية – التي تصاعدت كمياتها وتضاعفت نوعياتها في الآونة الأخيرة، والتي منحت للعوامل الايكولوجية والجغرافية والطوبوغرافية الأهمية، التي تستحقها في إطار دراسة التأثيرات، التي تمارسها على كينونة الشخصية الاجتماعية، لجهة تأطير وعيها وتنميط سلوكها وتأثيث مخيالها. إلّا أنه من النادر – رغم ذلك - العثور على بحث أو دراسة استطاع كاتبها التوغل بعيدا في شعاب الذاكرة التاريخية ومتاهات اللاوعي الجمعي والجماعاتي، بغية الوصول إلى الرواسب القارة والطمى المتراكمة التي خلفتها تلك العوامل، ليس فقط على تكوين التصورات وتشكيل العلاقات للأجيال، التي عاصرتها واندرجت في سياقاتها فحسب، بل وكذلك للأجيال اللاحقة التي ورّثتها بدورها، لمن يأتي بعدها وفقا لأوليات وديناميات عمليات (المجايلة) بين السابقين
واللاحقين.
وربما تجاسر البعض من الباحثين الجدد على الخوض في غمار مثل هذه المغامرات السوسيولوجية والانثروبولوجية والسايكولوجية، من باب إشباع الفضول المعرفي وتحدي الذات في القدرة على تحليل الظواهر وتأويل مآلاتها، بيد أنه مع ذلك لم يكن بوسع هؤلاء الوصول إلى نتائج مرضية أو الحصول على إجابات شافية، تضيف للقارئ حصيلة ثقافية – معرفية إلى ما يتوفر عليه من معلومات جزئية وتصورات مبتسرة حول سيرورات وديناميات الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتصارعة. ذلك لأن المديات المعرفية والمنهجية المتاحة أمام مساعيهم غالبا ما اقتصرت على احتمالين لا ثالث لهما؛ أما تناول الظاهرة قيد البحث والدراسة بمعزل عن بيئتها الحاضنة أو بعيدا عن محيطها المؤثر، بحيث تبدو كما لو أنها خرجت من رحم العدم بلا تراكمات أو مقدمات من جهة، وأما لجوؤهم إلى تقطيع السيرورة التاريخية إلى أجزاء متنافرة وأقسام متناثرة، ليصار من ثم حصر تركيزهم على (مرحلة) تاريخية ما، أو صبّ اهتمامهم على (لحظة) زمنية ما، كان حضور/ وجود الظاهرة المعنية ضمن سياقاتها المتحولة والمتبدلة طاغ أو بيّن.
وعلى إيقاع مثل هذه الضروب من البحوث والدراسات المبتسرة، فقد أضاع الكثير من الكتاب والباحثين العراقيين على أنفسهم، العديد من الفرص الذهبية التي كان من المفترض اهتبالها للحصول على نتائج ابستمولوجية ومنهجية قيمة، لا سيما وان دراماتيكية الانقلابات والتحولات والانزياحات التي شهد وقائعها وتداعياتها المجتمع العراقي بعيد زمن السقوط، قدمت من وفرة المعطيات السوسيولوجية وغنى الانثيالات الانثروبولوجية، فيما لو تم الاعتماد على المنهجيات الجدلية والمقاربات التركيبية والمنظورات التفاعلية، التي من شأنها جعل الباحثين أقرب إلى ماهية الظاهرة المقصودة، وأقدر على استيعاب سيرورتها وتتبع مساراتها وتوقع مآلاتها.
وفي هذا الإطار، فقد تحيّر الكثير من الكتاب والباحثين في الشأن العراقي إزاء تواتر وشيوع ظاهرة القيم والسلوكيات (القبيلة والعشائرية) في المجتمع العراقي، الذي اعتقد أن معظم جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية قطعت شوطا بعيدا في مضمار التمدن العمراني والتحضر الإنساني، على خلفية التوهم أنها قد تجاوزت أصولها الريفية وتخطت مواريثها القروية منذ عدة أجيال. بحيث وقف أولئك (الكتاب والباحثون) عاجزين عن إيجاد تعليل منطقي وتفسير مقنع لاستمرار تلك القيم والسلوكيات فاعلة، ليس فقط على صعيد مظاهر (الأريفة) العمرانية، التي باتت تجتاح المدن الرئيسة ومنها العاصمة بغداد، كما لو أنها تستعيد حوادث دمارها وخرابها على يد هولاكو وجنكيزخان فحسب، وإنما على صعيد استشراء مظاهر (البدونة) الحضارية التي استمرأ الانخراط في أتونها أفراد المجتمع وجماعته على حدّ
سواء.
ومن هذا المنطلق، يتبين لنا أن رواسب الايكولوجيا (الريفية) في سيكولوجية الشخصية العراقية من الرسوخ والثبات، بحيث عجزت كل أنماط الميول (المدنية) والدوافع (الحضرية) اللاحقة – رغم محاولات المجاميع السكانية في المدن العراقية - عن محوها من الذاكرة التاريخية واجتثاثها من السيكولوجيا الجمعية. وبدلا من أن يتراجع مدّ تلك الرواسب والمخلفات أمام عنفوان المدّ المديني والحضري، الذي اجتاح المكونات الديموغرافية للمدن، فإذا بها تتحول إلى ما يشبه الحواضن التي لم تبرح تتناسل في بيئتها كل ما له صلة بالقيم (البدوية) و(الريفية) و(القروية)، التي توهمنا – كما توهمنا في معظم توقعاتنا وتصوراتنا - في يوم ما أن مظاهر التوسع العمراني الكاسح تكفلت باندثارها وتلاشيها إلى
الأبد.
وهكذا، فما أن تحل نازلة – وما أكثرها - على أرض الواقع الاجتماعي، بحيث تحرك الرواكد وتثير السواكن القارة في قيعان السيكولوجيا وبين طيات المخيال، حتى تتصدر الأصول (البدوية) و(الريفية)، التي كانت مضمرة شتى مجالات الفضاء العمومي للمكونات السوسيولوجية بمختلف مواقعها ومستوياتها، مقابل تراجع وانحسار الميول (المدينية) و(الحضرية) لهذه الأخيرة، والتي كانت على الدوام تعاني الهشاشة في بنيتها من جهة، والرثاثة في قيمها من جهة أخرى. ذلك لأن مواريث الايكولوجيا الريفية/ القروية التي عاشت في كنفها وتغذت على قيمها أجيال متوالية من الجماعات العراقية، حفرت لها أخاديد غائرة داخل بطانة اللاوعي الجمعي.