علي الصالح
بدت الأشجارُ المنتشرةُ في حديقة المدينة حزينةً جداً، وصارت الأراجيحُ تُصدر صريراً مسموعاً إن حركتها الريح منذ آخر وقت هَجرها فيه الأطفال، وغدت المزالق المُثبتة على مُكعباتِ الاسفنج والكاربت الذي يحميهم من الشعور بالألم أثناء التزحلق من الأعلى للأسفل خشنة بفعل أشعة الشمس، بعد أن نسيت طعم احتكاكها بملابسهم الحلوة التي تجعلها ناعمة لماعة حين كانوا يتدافعون عليها بفرحٍ غامر وضحكات سعيدة.
كان في الحديقةِ فلاحٌ نشيطٌ يعمل منذ وقت طويل جداً حين كانت مجرد ساحة فارغة، ولما كبرت الأشجار وتوزعت التسالي في أرجائها، صار يَعرفُ حديثها ويُميز شعورها، يتكلم معها فتفهمهُ ويفهمها من غير أن ينتبه سكان المدينة لذلك.
ذات يومٍ اجتمعت أمهات الأطفال في الحديقة بالصدفة وقد بانت عليهن علامات الحزن. كان الفلاح يسمعُ حديثهن عن الأطفال الذين صاروا منعزلين في غرفهم برفقة هواتفهم النقالة، وكيف أنهم صاروا مُنشغلين بالألعابِ الإلكترونية وأصبحوا مشدودين إليها بشكلٍ غريب. لم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل إنهم تركوا وجباتهم الغذائية، فبان الشحوب والضعف على أغلبهم. وقَلَّ الحديثُ والصخبُ في بيوتهم، فصارتْ تلك البيوت أشبه بالفنادق تخلو من الحميمية والحُب، ينزوي سكانها كُلٌ على سريرهِ كأنهم التقوا بالصدفة تحت سقف واحد.
قاطعهن الفلاح قائلاً: وكذلك الأشجار والألعاب هي الأخرى تشعُرُ بالحُزن وتتمنى لو أن يعود الأطفال للحديقة فقد اشتاقت لهم كما أخبرتني بذلك.
سألتهُ إحداهُن:
-إذن ما العمل؟
أجاب:
-ابلغنهُم أني سَمعتُ شجرة الزيتون تتحدث مع بقية أشجار الحديقة أن كُل واحدٍ من الأطفال سيحصل على عشرات الهواتف الحديثة بدلاً عن هواتفهم التي صارت تتعطل لكثرة الاستعمال لو أنهم زرعوها في تُراب الحديقة وتركوها تنمو بطريقتها الخاصة.
قال ذلك من غير أن يحدد الوقت لحصولهم على الهواتف الجديدة. فرِحتِ الأمهاتُ بهذا الاقتراح الذي سيَجعلهم يتركون الهواتف لفترة غير معلومة على الأقل.
سارعت الواحدة تلو الأخرى لإبلاغ أولادهن بذلك. فرحوا بهذه الفكرة وراحوا يتسابقون بدفن هواتفهم عميقاً في التربة، وما إن انتهوا حتى شعروا بالفراغ، وصاروا يتجمعون كل يوم في الحديقة وينظرون لتلكَ الحُفر عسى أن تنبت بالأشجار العجيبة التي تحمل في أغصانها عشرات الهواتف.
مرت الأيام ولم يحصل شيء، وصار الأطفال يُعَوضون انتظارهم لنمو الأشجار العجيبة باللعب في الحديقة وما بها من أراجيح ومَزالق ودوائر للقفز وهم يشعرون بالسعادة والنشاط بشكلٍ تدريجي.
انتبهت الأمهات لشراهة أولادهن بالأكل وانتظام نومِهم، وأن وجوهَهم صارت تتورد مثل أزهار ذاب عنها الجليد بعد أن أدركتها شمس الربيع الدافئة، فراحَتْ تزدهي بجمالها على كُل المكان وهذا ما حصل؛ إذ مرت المدينة بفترةٍ من الهدوء غير الحميد والسكون الذي حول المدينة لمدينة أشباح وشوارع فارغة من الحياة، ها هي تنعَمُ بالحركة والضجيج، ويشعرُ المارون بها أنها بدت تتعافى من سباتها القديم، الأمر الذي جعل بقية المُدن ممن تعاني من المشكلة ذاتها تستفهم عن سر التحول الغريب وعودة الروح لكل شارع
فيها.
ظل الفلاحُ النشيطُ مُنهمكاً برعايةِ الحديقة وتشذيبها، يُعمرُ حواشيها بزراعة الأشجار الفتية وتقليم الكبيرة منها، ويدفُنُ في قلبها غرائس الثيل الأخضر ويبادر بسقيها باستمرار في الصباح والمساء.
مر وقتٌ طويل، وصارت حُفر الثيل تحتضنُ بعضها البعض وتمتدُ أعوادها الخضر وتتشابك صانعة بذلك بساطاً أخضرَ على مد البصر اختفت معه حفر الهواتف وضاعت الآثار التي تدُل عليها، وصار الأطفال الذين كبروا شيئاً فشيئاً يزهدون بتلك الحُفر وما فيها، وبَدوا هم أيضاً يعتنون بالحديقةِ بعد أن وجدوا السعادة والفرح يطوقانهم من كل جانب على مقربة من ذلك الفلاح.
تسارعت السنون، واجتهد الأطفال في مدارسهم، وصاروا يكبرون وتكبر معهم فكرة الأشجار العجيبة التي تحمل في أغصانها هواتف متعددة بإصداراتٍ جديدة وبرامج أذكى وألعابٍ أحدث.
بقي الفلاحُ الذي تقوس ظهره من الاعتناء بالحديقة منهمكاً عليها دون مللٍ أو كلل حتى بعد أن تحولوا لأصحاب مِهن واختصاصات مرموقة، صار عند كل واحدٍ منهم هاتف لا غير، وأسرة فيها أطفال جُدد، عرفوا أن الفلاح النشيط كان ذكياً في أن يُحولهم من أطفال مولعين بالهواتف والألعاب التي ستضرهم لو استمروا عليها لأناس صالحين يُكملون دورة الحياة، ويبادرون بين الحين والآخر لزيارة عمهم الفلاح في حديقته ويلتقطون معه عشرات الصور التذكارية، ينظُرون لحفرهم التي لم تنبت بأشجار الهواتف وقد اختفت بالتمام من الثيل والأغصان المتدلية، يضحكون بسعادة غامرة مع أطفالهم في حديقة الهواتف العجيبة ويحفرون معهم بالمكان ذاته حفراً جديدة.