تحاول لغة الدين تصوير ما لا صورة له
د. عبد الجبار الرفاعي
اللغةُ المستعمَلة في الكتب السماويَّة والنصوص الدينيَّة تارةً تكون رمزيَّة، وهي اللغة الدالة على حقائق غيبيَّة، وتارةً أخرى تخضع في دلالاتها لما وُضعت له ألفاظُها من معانٍ يتداولها أهلُ اللغة في التفاهم بينهم، كما في موارد تتحدث فيها الكتب السماويَّة والنصوص الدينيَّة عن الطبيعة، وما يعيش فيها من كائنات حيَّة، وما يسودها من تضاريس، وأنهار وبحار ومحيطات، وغيرها، والطبيعةِ الإنسانية وهشاشتِها، ومواطنِ قوتها وتكريمِ الله لها، وإناطةِ مسؤوليَّة الاستخلاف بها، أو تتحدث عن أحوالِ الأنفس والقلوب والأرواح، أو القيمِ الكونيَّة المشتركة، أو العلاقاتِ داخل العائلة والمجتمع، أو المعاملاتِ المتنوعة في حياة الإنسان، أو العبادات، لا تخرج اللغةُ المستعمَلة في تلك الموارد وأمثالها عن معانيها الموضوعة لها. لغة الكتب السماويَّة ليست رمزيَّةً في كلِّ شيء تتحدث عنه، باستثناء الحقائق الغيبيَّة.
نتحدث عن لغةِ الدين الحاكية عن الحقائق الغيبيَّة خاصة، وهذه لغةٌ تحاول تصوير ما لا صورةَ له، لغةٌ تعتمد على التلميحِ والإشارةِ والكنايةِ والمجاز والتمثيل والتشبيه والترميز. لغةُ الدين الحاكية عن الحقائق الغيبيَّة غيرُ لغة العلم، لغةُ العلم مهمّتُها الكشفُ والتفسيرُ والتوصيفُ بأجلى العبارات وأوضحها، وأصرحِ الكلمات، وأبسطِ الجمل، تبتعد عن التلميحِ والإشارةِ والكنايةِ والمجاز والتمثيل والتشبيه والترميز، تبوح بمعانيها وتحكيها بشكل صريح، تحذر مما هو مُضمَر ومبهَم، تنفر من الكنايات والمجازات والإشارات والتلميحات، تسعى لأن تتسعَ فيها الألفاظُ للمفاهيم بنحوٍ لا تقبل الانصرافَ فيه قدر الإمكان لمفهوم بديل. لغةُ العلم تنشد التطابقَ، ما أمكنها ذلك، بين الدالّ والمدلول، بين اللفظ والمعنى. لغةُ العلم مباشِرةٌ في التعبير عن مراميها، واضِحةٌ في بيان قوانينِها ومعادلاتِها وحساباتِها وأرقامِها، لفرط وضوحها يوازي تصورُها وفهمُها التصديقَ بها، ويعود التصديقُ إلى أن موضوعاتِها ليست مفارِقةً للمادةِ وعوالمِها، كما هو متداول في الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من العلوم الطبيعيَّة.
"لغة الدين" مصطلحٌ غيرُ معروف في الدراسات الدينيَّة والفلسفيَّة والألسنيَّة العربيَّة على نطاق واسع، على الرغم من أنه أحدُ أهمّ الموضوعاتِ والأركان المحوريَّة لفلسفة الدين، وأن توطينَها في دراساتنا الدينيَّة يوفر لنا مرآةً نرى فيها النصوصَ الدينيَّة من زاويةٍ مختلفة عن النظر المكرر إليها من الزواية ذاتها، ويفتح لنا نافذةً أخرى على فهمٍ للدين ونصوصه يتخطى النظرةَ السطحيَّة، من خلال تحديدِ ماهيةِ نصوصِه، وهل هي نصوصٌ تخضع لمنطقِ فهمِ اللغة العرفية، أو أنها لغةٌ أخرى تمتلك منطقَها الداخلي الخاص، وتتحدّث عن معانيها بطريقتها الخاصة، وإن كانت كلماتُها مشتركةً مع اللغة العرفيَّة.
لغةُ الدين المختصّة بالغيب حكايةٌ عن عوالم الغيب، إنّها تخاطب روحَ الإنسان وقلبَه وتوقظ حواسَّه الباطنيَّة، لا تتحدث عن الأشياء الخارجيَّة الملموسة والمحسوسة إلّا عندما تحاول رسم صورة مجسّدة للمجردات عبر تجسيدها بمحسوسات، كما في آية النور: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"،[ النور: 35].
مدلولاتُ كلِّ كلمةٍ تتحدّث عن الغيب تشي بحقائق مفارقةً للمادة، خارج فضاء الحسّ، إنّها تنشد تمثّلَ المطلق في النسبي، وتحاول ترجمةَ المحدود للا محدود، وتجليَ الإلهي في البشري، وحضورَ عالم الغيب في عالم الشهادة، وتجسيدَ اللا مرئي في المرئي، واستيعابَ اللا محسوس في المحسوس، وما هو مادي لما هو لامادي، ومحاولةَ تصوير ما لا صورةَ له، ورسمَ ملامحه في فضاء الصور، واستكناهَ ما لا يُكتنه، ورؤيةَ ما لا يُرى، ومعرفةَ الحواس بما لا يمكن التعرّفُ عليه بها. إنها رؤيا عابرةٌ لرؤيةِ العين البصريَّة، ومعرفةٌ ذوقيَّةٌ عابرةٌ للعقلِ وطرائقِه ومحاججاتِه، وضربٌ من الصلةِ الأنطولوجيةِ التي يتجلّى فيها الغيبُ بشكلٍ يستطيع معها أن يتذوّقه من يؤمن به، إذ يتمكّن من خلال هذه اللغة أن يحقّق شكلاً من الاتصالِ المباشر وشهود العوالم اللا مرئية للغيب.
لغةُ الدين المختصّة بالغيب تتكشّف فيها مراتبُ أعمق من الوجود لا تتكشّف للإنسان باللغة العادية. وتشير الى معانٍ متعاليةٍ على الواقع المادي وحدوده الضيقة، معانٍ تختنق فيها اللغةُ العادية. لغةُ الدين هي اللغةُ الوحيدةُ القادرةُ على التعبير عن حقائقِ العالم الأخرى اللا مرئية بنحوٍ تعجز فيه كلُّ أشكالِ اللغة الأخرى عن التعبير عنها.
لا تنشد لغةُ الدين المختصة بالغيب التطابقَ بين الدالِ والمدلول، وبين اللفظِ والمعنى، لضيقِ الدالّ وقصورِه، إذ يفتقر اللفظُ لأن يتسعَ لما لا يمكنه استيعابُه، ويستوعبَ ما لا يمكنه استيعابُه، وتمثّلَ ما لا يمكنه تمثّله، ويفشلُ في نقلِ ما يضيق به ظرفُه، واحتضانِ ما يعجز عن تمثّله. لغةُ الدين المختصّة بالغيب يتنزَّل بها المعنى من نشأةٍ أعلى إلى نشأةٍ أدنى، ذلك أن اللغةَ البشريّةَ من شؤونِ العالم المادي، وليستْ من شؤونِ عوالمِ الغيب، وظرفُها لا يتسع لمعاني تلك العوالم، وإن السعةَ الوجوديّةَ للغيب يضيقُ بها كلُّ ما ينتمي للعالم المادي، أي أن هذه اللغةَ لا يتجلّى فيها المعنى إلا بكيفيةٍ تماثل حقيقتَها البشريّة، وهو نحوُ تنزّلٍ على شاكلتها.
لغةُ الدين المختصّة بالغيب ضربٌ من الترجمةِ لإشاراتِ الغيبِ ورموزِه، ومحاولةُ رسمِ صورةٍ عنه في قوالب لغتنا البشريَّة، وتجلٍّ لكلمةِ الله من خلال كلماتِ البشر. الترجمةُ لا تطابق الأصل، ولا تعكس صورتَه كما هي، ولا تكشف كلَّ ملامحِه، إنها تومئُ إليه وتشيرُ إلى شيءٍ من ملامحِه. يظل فهم الغيب في الكتب المقدسة نسبيًا. المفسّر الذي يمتلك أدوات التفسير تفسيره ليس نهائيًا، يخضع المفسّر في تفسيره لمشروطيات الذات والزمان والواقع والظروف والعوامل والمعطيات المختلفة المؤثرة في حياته كفرد وحياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وليس بوسعه الإفلات من تأثير هذه العوامل المتنوعة على فهمه، مهما حاول أن يكون حياديًا. يحضر الاسمُ "الله" وأسماؤه الحسنى وصفاتُه وما يتصل بالغيب بكثافة في آيات القرآن، إلا أن اللغةَ الدينيَّة المتداولة المشبّعة بدلالات كلاميَّة وفقهيَّة حجبت الدلالاتِ الرمزيَّة لهذه الأسماء والصفات في الآيات. تسيّدت الحياةَ الدينيَّة في الإسلام لغةٌ دينيَّة في العصور التالية لعصر البعثة الشريفة، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقةٌ من رؤية علم الكلام، وأحكام الفقه الذي ابتنى على الرؤية الكلاميَّة. لذلك تحضرُ الذهنَ غالبًا في عملية التفكير الديني الكلماتُ المشبَّعة بدلالات كلاميّة وفقهيّة، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التعليم الديني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التواصل، عندما يتداول المتحدثون أيَّ شأنٍ ديني، لا يخرج المتكلّمُ عن المعجم الكلامي والفقهي إلا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقي إلّا المعنى الراسخُ في هذا المعجم. في الحياة اليوميَّة للمسلم، حينَ يتحدثُ عن أيِّ شأن يتصلُ بالدين، تتكرّرُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلاميَّة وفقهيَّة، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتصلُ بالدين يستقي من هذا المعجم. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم لا يرون معنى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدينيَّة خارج أُفق رؤية المتكلمين وأحكام الفقهاء للعالَم.
اللغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحّ توصيفها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأيّ معنى. اللغةُ ترسمُ خارطةً للذهن، وتحدِّدُ مساحةَ التفكير ومدياته وكيفيته. يقول لودفيغ فيتغنشتاين: "إنّ حدودَ لغتي حدودُ عالمي". اللغةُ هي بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عملية التفكير. ما دام مضمونُ لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدين ومفهومه وأدوات تفسير القرآن والسُّنة قلّما تتجاوز رؤيةَ المتكلم والفقيه، وتتسع لاستيعاب الدلالات الرمزيَّة في آيات القرآن.
* نص من مقدمة الجزء السادس في: موسوعة فلسفة الدين، الذي يختص بلغة الدين، اعداد وتحرير: عبد الجبار الرفاعي. الموسوعة تحت الطبع في 8 أجزاء.