ابتهال بليبل
ما زلت أتذكرُ جيداً شخصية الأم في ثلاثيّة نجيب محفوظ "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية" ولم أكن أعي أن تلك الشخصية بحضورها الطاغي لها أساس اجتماعي قار حتى تجاوزت سنوات طويلة من عمري. واكتشفت أن صورة الأم في سرديات الأدب ما هي إلا وجهة نظر أو تعبير عن أفكار معينة، تتضمن صورتها (مظهر جسد المرأة الخارجي في الحياة الواقعية والنفسية) وتتعلق بشكل عام بالعقل والعاطفة والرغبة. وصورتها الاجتماعية التي تعنى بدورها ومكانتها في الأسرة والبيئة وما تشكله التقاليد والثقافة.
فثلاثية نجيب محفوظ أسهمت - بشخصية أمينة – بشكل كبير في خلق صورة نمطيّة (للأم الشرقية) التي تعيش في ظروف تشابه كثيراً ظروف غيرها من النساء، حيث الأم المضحية والراعية الطيبة لمن هم في حياتها من أفراد وأسرة، على الرغم من اختلاف هذا الأمر بحسب الصراعات الفرديّة والمكانة الاقتصاديّة.
أما رواية "الضوء في أغسطس" لويليام فوكنر، فقد نبّهتني إلى تجرّد الحمل من صورته الجميلة، فكان الأمر بالنسبة لي مثل فانتازيا أن تنسى المرأة "أين كانت وكيف أصبح حالها" إذ يمكن أن يزداد الخوف وتصاب بهيستريا من التوتر والقلق، وتتغير حواسها وتتفاعل لدرجة أن تتمكن من أن تشم كل شيء حولها من رائح الأجساد والسجاد والحيطان وغيرها بشكل مرضي.
إنّها رغبة غير مفهومة في اختبار المرأة لجسدها والبحث عن حيوات أخرى لها كما في روايات مثل "الطفل الخامس" لدرويس ليسينغ، و"أشياء حادة" لجيليان فلين.
تنجح بعض الروايات في تصوير الأم بكاريزما شريرة عبر اظهار قسوتها وعدم قدرتها على التعاطف الذي يتُرجم أو يسوّغ عادة بأنّها تكافح غاية في الاستمرار تحت ظروف صعبة، بوصفها الأرملة أو هجر زوجها، مثل رواية روبرت بلوخ " سايكو" و"ساعي البريد يدق الباب مرتين" للكاتب الأميركي جيمس كين.. قد نفكِّر في أن التأثير العنيف للظروف الصعبة لا ينفصل عن كونها امرأة وحيدة بلا معين أو زوج تحاول حماية أطفالها أو أسرتها، وتمثّل بشكل ما الضحية، والأكثر ضعفاً حتى من صغارها، وأنها بالضرورة غير مسؤولة عن القيود والتوقعات المجتمعيّة القمعية المفروضة على الأمومة، وكيف أن قوانين الحداثة لا تضاهي القوى البدائيّة التي توجد خلف ستار واقعنا المفترض.
ولكن هذا ليس كافياً بالنسبة لحياة الأمهات الحوامل، لأن عناصر التجربة الإنسانيّة هذه غالباً ما تكون أكثر خطورة ومليئة بالتحديات الجسديَّة. ومن الأمثلة على ذلك رواية "كورالاين" للكاتب نيل غايمان. إذ يدور حول رعب الطفولة أكثر من الأمومة. ومع ذلك، فقد وجدت ما طرحه بشكل مختلف بعد أن أصبحت أماً.
ما يجذبني إلى الاستعانة بمقولة الروائيّة آشلي أودرين أن "النساء يترددن في الاعتراف بمشاعرهن المعقدة بشأن الأمومة لأنّهن يخشين أن يحكم عليهن الناس"، إنّ تتناول ثيمة الأم في السرديات يعكس الطريقة التي تتغير عبر هذه المرحلة تفاصيل حياتها ونظرتها تجاه ما يحدث حولها، وهو ما تراه أغلب النساء إذ يشكل الحمل بالنسبة لهن "كابوسا"، ففيه تتحول حياة الأم نحو داخلها، ولو لفترة من الوقت، وتبدأ أعمق مخاوفها بألا يؤثر هذا التحول على حياتها الخارجيّة المتمثلة بأسرتها.
قد يبدو الأمر طبيعيّاً جداً عندما تكتب المرأة عن الأمهات لأن المخاوف والإحباطات وكذلك مشاعر القلق التي نشعر به كأمهات ما هي إلّا تجارب كبرى عالمية، ولكن هل يبدو الأمر نفسه عندما يكتب المؤلف الرجل عن روايات معنية بالأمهات والأمومة؟، لا أزعم أن الكتاب الذكور لا يحق لهم خلق شخصيات نسائية، ومع ذلك، فأنا أرى أنّه يجب أن نكون حذرين مع بطلات الروايات الإناث اللاتي كتبهن الرجال عند تحليل النصوص من حيث تصويرهم للنساء والمعنى العام، لأنها تجريبية صادرة عن الرجال.
إن أحد الأشياء التي أحبها في السرديات التي تعنى بالأم هي الطريقة التي تُظهر بها تعقيدات الحياة البشريّة من خلال رفض الابتعاد عن الأشياء المخيفة والمثيرة للاشمئزاز والمربكة. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الكتب التي تركز على الأمومة مؤثرة ورمزيّة للغاية.
فغالبًا ما تتناقض بعض الروايات بشكل كبير مع الواقعية، مثل رواية "جين أير" للكاتبة شارلوت برونتي، إذ تهدف إلى تمثيل الحياة في أكثر أشكالها حيوية وشرعية.
إنّ صورة الأم في أغلب السرديات تظهر لأداء دورين مزدوجين، إذ يُطلب منهن الاخلاص للعديد من الأدوار المختلفة في وقت واحد. بطرق مختلفة، تعرض الصعوبات التي تواجهها النساء اللاتي يخضعن للازدواجية بشكل يسمح بحدوث أسوأ نتيجة ممكنة لذاتية الأم.
وأحيانا تظهر البطلة بلا أم حيث رحلت في وقت مبكر جدًا من طفولة. وتراها تبحث عن عمل ويائسة للعثور على التوجيه والاستقرار أو تقديم قصة تحذيريّة حول عواقب الأمومة الفاشلة.
تقدم هذه الروايات، أحداثا مفصلة لما هو متوقع من النساء حتى اللواتي ليس لديهن أطفال بيولوجياً. ومن خلال هذه المعطيات الدقيقة، يظهر الضغط المجتمعي على النساء ليكونوا الصورة المثالية للأمومة، إلا أن الشخصيات النسائية في هذه الروايات ما تزال تحاول الحفاظ على هذه الأدوار التي رسمتها الرواية لها.