طاق (المدائن) يبحث عن منقذٍ وسط الإهمال
يوسف المحمداوي
تصوير: نهاد العزاوي
اكتمل بناؤه عام 550 للميلاد وهذا يعني أن عمر هذا الأثر الحضاري يبلغ (1474) عاماً، وبحسب ما ورد بالكتب التاريخية والدينية، أنه يفوق عمر النبي نوح (ع) والذي بلغ (950) عاماً، أي إنه يتعداه بخمسة قرون، واذا افترضنا أن عمر الجيل (70) عاماً، فإن عمره يعادل أكثر من عشرين جيلا، مر في تاريخ البشرية.
أما إذا ما ذهبنا إلى حاضرنا وابتعدنا عن أعماق التاريخ، وقارنا عمر هذا الشامخ الأسطوري مع تأسيس الدول، ولنقارنه بعمر أميركا التي تقود العالم اليوم وتتحكم بمصائر الشعوب، ففي ولاية (فيلادلفيا) عام (1776) ميلادي، أعلن المؤتمر القاري الثاني استقلال المستعمرات باسم الولايات المتحدة الأميركية بقيادة جورج واشنطن، وحددت معاهدة السلام لعام (1783) ميلادي حدود الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يعني أن الإيوان يفوقها بالعمر (1233) عاماً، وسأكون ظالماً للدول التي تأسست ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذا ما قارنتها بعمره، وسأكون أكثر ظلماً إذا ما قارنت تاريخ جميع دول العالم بتاريخ العراق ما قبل وبعد الميلاد، ولكن ما جدوى التاريخ مع ما نعيشه اليوم من واقع مرير.
بعد زيارتنا لمرقد الصحابي الجليل سلمان المحمدي رضوان الله عليه رأينا من الضروري زيارة الطاق الذي يعد الشاهد الأول على عاصمة العراق القديم (المدائن)، ولكن فوجئنا بغلق الموقع ومبررات الغلق كما بين لنا موظفو قسم هيئة السياحة الخاصة بالطاق لغرض الترميم، ولكن لم نجد من الترميم سوى هيكل حديدي معلق مع الطاق، إضافة إلى حارسين من الشرطة لا غير، فضلاً عن غياب الحدائق التي كانت تحيط بالبناء والتي تحولت إلى مكبات للأحراش والقاذورات، لكن الهيئة العامة للآثار والتراث متمثلة برئيسها، أوضحت لنا حقيقة الأمور الجارية في الموقع الأثري.
كفاءة الملاكات العراقية
رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث السيد علي عبيد شلغم بين لـ (الصباح)، أن مشروع ترميم الطاق كان في عهدة جامعة بنسلفانيا للبحث وتطوير الآثار منذ العام 2021، وعند تسلمنا مسؤولية هذه الدائرة المهمة في العام الحالي، لاحظنا أن هناك تلكؤاً واضحاً للعيان من قبل تلك الجامعة المتبنية للمشروع بذرائع واهية لأنهم قاموا بتثبيت هيكل حديدي داعم لهيكلية بناية الطاق، ولم ينطلقوا بالخطوات الأخرى التي من شأنها إنجاز المشروع، وإكمال الدراسات الخاصة به كمعرفة تأثير المياه الجوفية وقوة تحمل حجارة الطاق التي تعرضت للكثير من التقلبات الجوية والتاريخية كالفيضانات والأحداث التي عاشها الطاق على مدى مئات السنين، لذلك وبعد تسلمي للمهمة خاطبنا الجهات العليا من خلال الوزارة لإناطة المهمة بالملاكات العراقية التي برهنت جدارتها وكفاءتها وخبرتها في إنجاز العديد من المشاريع الاستراتيجية على مستوى الآثار، والتخلي عن مشروع جامعة بنسلفانيا التي برهنت ومنذ تاريخ التعاقد معها عدم جديتها في العمل وهي المسؤولة عن كل هذا التأخير، وبشأن الأنقاض والأحراش التي تشوه بناية الطاق من الداخل والخارج أكد خبير الآثار وورئيس الهيئة أننا قمنا بتوجيه دائرتنا الفرعية في قضاء المدائن وبالتنسيق مع الدوائر البلدية هناك بإزالة جميع الأمور التي تشوه صورة الموقع.
الغوص في تاريخ المدينة
خبير الآثار والأستاذ المساعد في الجامعة العراقية مثنى سعدون ظافر الهنداوي أوضح لـ (الصباح)، أن المدائن هو الاسم العربي الحالي للعاصمة الشهيرة والقديمة، وعرفت أيضاً باسم طيسفون أو تيسبون، وبعد غزو الإسكندر المقدوني للمنطقة واسقاط الدولة الإخمينية سيطر الأخير على معظم مناطق العالم القديم وحين وفاته المبكرة في بابل، تصارع خلفاؤه عن من هو صاحب الحق في خلافته، ونتيجة هذا الصراع تقسمت دولته وكان العراق ومناطق أخرى منها إيران وبلاد الشام من حصة سلوقس (نيكاتور) أحد قادة ورفاق الاسكندر، الذي بنى عاصمة جديدة لدولته اسمها سلوقية دجلة (موقعها الحالي تل عمر في منطقة البو عيثة جنوب بغداد) وحينما سيطر الفرثيون أو البارثيون على العراق بنوا المدائن مقابل سلوقية دجلة، وحينما سقط الفرثيون على يد اردشير بن بابك بن ساسان اتخذت هذه الدولة المدائن عاصمة لها مع وجود مراكز أخرى أو عواصم مهمة إلى جانب المدائن، وتوسعت المدائن بشكل كبير لتشمل سبع مدن وهي: طيسفون القديمة، رومگان القديمة أو الرومية شرق نهر دجلة، حيث بناها كسرى انوشيروان بعد سيطرته على مدينة انطاكيا في حربه مع الروم البيزنطيين، ودعيت بالبهلوية (ويه انتيوخ خسرو)، و(ويه أردشير) = (سلوقية)، و(دَر زْرَنِيذان) و(بلاش آباد) في الشاطئ الغربي لدجلة، و(اسبانبر)، و(ماخوزا) على الشاطئ الشرقي، وفي اسبانبر يوجد مزار سلمان المحمدي وطاق كسرى الشهير .
من هو باني القصر؟
اختلف الباحثون في من بنى هذا القصر، فمنهم من يرى أن بانيه هو سابور (شاه بور) الأول بن أردشير، والأرجح أنه كان هناك قصر يحتوي على أواوين ثلاثة يعود له وهو غير موجود حالياً، أما الرأي الراجح فإن بانيه هو كسرى انوشيروان الملقب بـ(الروح الخالدة)، كان هذا الإيوان معلماً مهماً وعرف في النصوص العربية الإسلامية بالقصر الأبيض وكان يحتوي على نقوش وتماثيل وفسيفساء، وواجهته مغلفة بالفضة، ويحمل كتابات على جدرانه بالبهلوية الساسانية والسريانية الآرامية، لقد كان هذا الإيوان يحتوي على عجائب منها: أن ملك الفرس كان يضع تاجاً، يزن أكثر من ٩٠ كيلوغراماً فوق رأسه، والحقيقة أن ذلك التاج كان معلقاً بالسلاسل في الإيوان وتغلف هذه السلاسل بالحرير والأقمشة الفاخرة، وذكر بعض الرحالة الأجانب أن بعضاً من هذه السلاسل كانت موجودة ونهبتها إحدى العشائر الرحالة في المنطقة، ومن عجائب الإيوان الأخرى ما تذكره كتب التاريخ، فقد كانت هنالك سجادة كبيرة تغطي مساحة داخل الإيوان كلها، تعرف بسجادة الربيع، صنعت في عهد كسرى ابرويز عليها أشكال نباتات وزهور وثمار من الجواهر الثمينة، وكان له وشاح نادر وغريب بعد أن يأكل يمسح كسرى ابرويز يده وفمه به، وحينما يضعه في النار لا يحترق هذا الوشاح بل يتخلص مما علق به.
الإيوان تراث عراقي قديم
الهنداوي يبين: أن فكرة بناء الأواوين والأقواس بل وحتى القباب هي تراث عراقي قديم، وانتقل للشعوب الأخرى لاحقاً، وهذا ليس بمستغرب حيث كانت عمارة العراق قد أثرت في العديد من الدول، فقد وجدت أفكار مطبقة فعلياً مثلاً هناك بقايا أقواس أو أواوين معقودة عثر عليها في تل الرماح في قضاء تلعفر في محافظة نينوى وهو يعود لنهاية الألف الثالث قبل الميلاد، كما وجد معبد وقصر لعبادة ملك أور بناه حاكم اشنونا ويدعى ايلوشوايليا وكان يحتوي على إيوان، كما عرفت القباب والأواوين في مدينة أور حيث وجدت نماذج منها، وفي عهد البابليين والآشوريين استعملت الأقواس والأواوين في المباني، فقد وجدت أبواب تحتوي على أقواس كبيرة، كما في بوابة ادد في نينوى أو بوابة تابيرا في آشور.
ووجد إيوان ضخم في آشور (قلعة الشرقاط) نقل الألمان واجهته لمتحف برلين قبل الحرب العالمية الأولى، وسموه بالقصر الفرثي، ويرى عالم الآثار العراقي الدكتور ماجد الشمس والمتخصص بآثار مدينة الحضر أن هذا القصر يجب أن يسمى بالقصر العربي لسبب بسيط وهو أنه تم العثور على كتابة آرامية في التنقيبات عام ١٩٨٠م تحتوي على نص لباني القصر واسمه (أسد بن فجر بن حيي) وهو اسم عربي صريح، ويؤكد على تواجد العرب قبل الإسلام في العراق ومشاركتهم في حضارة ذلك الزمان ولا نستغرب من ذلك، فهذا القصر معاصر للحضر عاصمة مملكة عربايا (والقريبة من آشور) التي تواجد بها الآراميون والعرب وبقايا سكان العراق القديم والذين أنتجوا حضارة متميزة بحسب قول الهنداوي.
يذكر أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور حاول هدم إيوان كسرى لاستخدام الآجر المبني فيه لبناء مدينة بغداد، فهدم بوابة القصر ولكنه وجد أن تكلفة هدمه أكبر من تكلفة استفادته من آجره فترك ذلك الأمر.
من يعيد للمكان رونقه؟
الناقد السينمائي كاظم مرشد السلوم المولود في قضاء المدائن يقول: كنت شاهداً على زهو المدائن، المدينة التاريخية التي يمتد عمرها إلى أكثر من 1474 عاماً، فقد ولدت هناك بين نخلتين في أحد البساتين المحيطة بها، ولم أنقطع عن زيارة المدينة إلى الآن، كان البغداديون يتوافدون عليها في الحادي والعشرين من آذار يوم عيد النوروز، ليقضوا يوماً كاملاً فيها يمرحون ويرقصون في الفضاء الكبير المقابل لطاق كسرى، حيث تمتد الحدائق المليئة بالأشجار والورود، وتنتشر الكازينوهات والمطاعم فيه.
أما في العيد كما يقول السلوم: فالفلاحون من قريتنا وغيرها من القرى يتوافدون إلى طاق كسرى في ثاني أيام العيد ويطلقون على هذا اليوم (الفرية) أو الفرجة فيعقدون حلقات لرقص الجوبي وتجتمع النساء قريباً منهم يغنين ما تيسر لهن من أغاني الريف، كل ذلك كان يجري في الفضاء المقابل لطاق كسرى، متخذين من الحدائق مسرحاً لاحتفالاتهم، بينما يستظل البعض تحت الأشجار الباسقة التي تملأ المكان، ويبين السلوم لـ "الصباح" أنه مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية تعرض المكان لإهمال كبير، فلم يعد للحدائق أو الأشجار وجود، وأصبح المكان عبارة عن أرض جرداء لا ينبت فيها سوى الأشواك والأحراش البرية، وتعرض الطاق التاريخي إلى العديد من عوامل التعرية وقد يسقط في أي لحظة، وهو الذي يعد معلماً أثرياً بارزاً، يفترض الحفاظ عليه.
ترى من يعيد للمكان رونقه السابق؟