{ليل الصوفيَّة} لسامي نسيم.. جماليَّةٌ روحيَّة

منصة 2024/10/16
...

 مهدي هندو الوزني

ليل الصوفية مقطوعة موسيقية من تأليف سامي نسيم، والتي اشتملت على تنوع جمالي تمظهر في الأنساق النغمية، التي شكلت ميلودي المقطوعة بدءا "من مقدمتها وانتهاء بقفلتها الموسيقية". وقبل الدخول في تفكيك هذه الأنساق النغمية نود المرور على عنوان المقطوعة، والذي يعتبر بوابة الدخول إلى عوالم المقطوعة الفنية والجمالية.

لقد عنون الفنان الموسيقي سامي نسيم مقطوعته بـ "ليل الصوفية" وهو أي العنوان متكون من كلمتين الأولى "ليل"، والليل هو فترة زمنية بين غروب الشمس وشروقها، وهذا ما سنلحظه من موسيقى توسطة مقدمة المقطوعة ونهايتها، والكلمة الثانية هي "الصوفية"، والصوفية هي أحد المذاهب الإسلامية متنوعة الطرق ومنها الطريقة الشاذلية والقادرية والرفاعية وغيرها. وتختلف الطرق حسب مشايخها، لذلك نلحظ التنوع في تعاليم هذه الطرق الصوفية، والتي ربما تأثر بها نسيم عندما ألف مقطوعته الموسيقية، حيث ضمنها تنوعا جماليا في بناءاته اللحنية وتراكيب جمله الموسيقية، ليؤكد ثراء تنوع الطرق الصوفية في تعاليمها وتربيتها لمريديها. فمن الطرق الصوفية من تؤكد كثرة الصمت وسهر الليل، وليل الصوفية يختلف عن ليل الآخرين فهم يسهرون الليل بذكر الله وبقلب خاشع وتفكر في آلائه، ولذلك نلحظ أن نسيم قد حدد الليل واشتغل على تصوير ما يدور في حلقات الذكر الصوفي. وهنا نلحظ أن هناك إشارات لتنوع جمالي استمدها الفنان من حاجات النفس وروحانيتها، التي هي سمة واضحة للصوفية. فاستطاع أن يحدد مسار الميلودي من خلال تركيب جمله الموسيقية، مصورا وجدانية منتجة لتنوع جمالي، بدءا من المقدمة التي تمظهر في أنساقها النغمية عنصر الإيحاء لهذا الليل الصوفي المعتمر بالذكر والإيمان، والذي ألقى ظلاله الجمالية على مقدمة المقطوعة في بنية فضائها النصي، باعتبار أن التأليف الموسيقي هو كتابة والكتابة تفضي إلى نص، ودائما ما تكون المقدمة المتنوعة جماليا، مؤثرة في نفس المتلقي/ السامع ومحفزة لتذوقه الجمالي. تبدأ المقدمة الموسيقية بضربات من مقام الحجاز على درجة ال "فا" مع الإيقاع وهي أول تنوع جمالي يضعه نسيم، ربما أراد به تنوع مصطلحات الصوفية، والتي منها "الفناء/ السالك/ السفر" ثم تعاد نفس البناءات الميلودية، ولكن بشكل مستمر أو ما يسمى بالعرف الموسيقي  "فرداش"، أي الريشة المستمرة لتؤكد الدخول إلى عوالم الصوفية، ومن التنوع الجمالي اختيار مقام الحجاز، وهو من المقامات التي توحي بالطمأنينة والراحة النفسية والهدوء والإيمان، ومن ثم نلحظ تنوعا جماليا آخر عندما يأتي بناء ميلودي تتابعي، يتبعه تنوع ميلودي جمالي ثلاثي تصاعدي، ثم يعود ثانية إلى درجة الاستقرار وهي درجة "فا "وهذا البناء الفني للميلودي، ربما أراد به الفنان أن يحاكي الطريقة المولوية في رحلتها الروحية التي تذهب بها نفس المريد إلى أعماق العقل والقلب، لتصل به إلى الكمال ومن ثم العودة من هذه الرحلة الروحية إلى عالم الوجود بنمو ونضج، ومن ثم يطالعنا تنوع جمالي آخر، وهو عبارة عن ضربات من نوع الكوردات الإيقاعية تحاور الضربات الإيقاعية لآلة "الرق "، وهنا ربما أراد نسيم ترجمة موسيقية لما ينشده أحد الدراويش شعرا" يقول فيه "إذا رمت المنى يا نفس روحي لمولانا" وعند كلمة مولانا تُضرب ثلاث ضربات، لذلك ضمن نسيم مقطوعته الموسيقية بضربات عدة، محاكية ضربات دفوف المنشد المولوي، ثم نلحظ دخول تنوع جمالي آخر عندما يبدأ العزف يتصاعد بوتيرته وتتمظهر تقنية التكنيك العالي، ومعها دخول آلة "الرق" بشكل بارز، ليحاكي الفنان سامي نسيم دخول الدراويش حلقة الرقص الدائري، لتبدأ عملية الدوران حول نفسهم على إيقاعات الإنشاد للوصول إلى ذروة الوجد وبشكل حركات سريعة، وهذا ما فعله نسيم في البناءات التكنيكية لسرعة العزف، والتي تظهر مهارة العازف للمقطوعة الموسيقية، كما هي مهارة المريد الصوفي في حلقة الذكر، حتى نصل إلى نهاية المقطوعة الموسيقية والتي تسمى في العرف الموسيقي "القفلة". ودائما ما يحرص المؤلف الموسيقي على اختيار قفلة جمالية لمقطوعته الموسيقية، لأنها تُعَدْ أي القفلة الموسيقية الثقل الجمالي للعمل الموسيقي، فيسعى المؤلف الموسيقي إلى تضمين القفلة الموسيقية صورة ذهنية تؤثر في المتلقي/ المستمع بنوعها الجمالي فأحيانا "تكون غرائبية وأحيانا أخرى تبعث الاندهاش، وأحيانا تكون قريبة من نفس المتلقي/ المستمع وثقافته ومخزونه الجمعي، ولأن القفلة الموسيقية هي آخر ما يستمع إليه المتلقي، سوف تظل عالقة في ذهنه وتشكل له خلاصة فهمه للمقطوعة الموسيقية، وهنا اختار الفنان سامي نسيم الآذان قفلة لمقطوعته الموسيقية، لما للآذان تأثير سحري على المتلقي، الذي ألفه منذ الصغر وحملته الذاكرة الجمعية جيل بعد جيل، وليضفي جمالية نوعية لختام مقطوعته الموسيقية بعشق ووجد صوفي كما بدأها.
لقد استطاع الفنان سامي نسيم أن يقدم بتنوعاته الموسيقية الجمالية، بدءا من المقدمة الموسيقية ومرورا بالبناءات وتراكيب الجمل الموسيقية والإنتقالات المقامية والإيقاعية، التي استوحاها من الطرق الصوفية، وسعى أن تكون صورة لمنهج هذا المذهب وتعاليمه وليله المشحون بالذكر والإيمان، وهذا التنوع الجمالي ينسحب على جميع مؤلفات نسيم الموسيقية.