الدائرةُ القصيَّة.. البناء الثقافي لجسد المرأة

ثقافة 2024/10/20
...

  ابتهال بليبل

"كيف تقدم على بتر ثديها الأيمن، وأية وسيلة اتخذَتْها لتقدم على هذا الفعل؟" تساؤل –جذبني جداً- طرحه ميثم الخزرجي في قصة "الدائرة القصية"، وهي ضمن مجموعته القصصية "متنزه الغائبين" الصادرة حديثاً، ولأعترف أن ما جذبني النظرة للبناء الثقافي لجسد المرأة في المجتمع، وكيف أن وضعية الثديين في الثقافة السائدة مجرد "أشياء" لا علاقة لها بالكيان النسائي المرئي أمامنا، هناك فصل وعزل عندما يتعلق الأمر يتصل بتجربة الاستئصال أو البتر وكأنها لا تعني المجتمع.

واستناداً إلى أفكار الفيلسوفة والمنظرة النسوية لوسي إيريجاري حول ميتافيزيقيا بديلة لا تدور حول مفهوم "الشيء أو الأشياء"، فإن تجربة استئصال الثدي كما في قصة "الدائرة القصية"، لها حساسية كبيرة من وجهة نظر الموضوع الأنثوي.
يقرر الخزرجي: (الغريب في الأمر أنها بقيت بثدي واحد بعدما عالجته إحدى صديقاتها، لتسترد عافيتها بفترات متقطعة"، كما تقول جارتها مدام فيري، التي تعمل مديرة لإحدى مدارس الرقص: تزورني في نهاية كل أسبوع تقريباً متأنقة وزاهية، كنت أتحاشى الحديث معها في هذا الموضوع، تسألني عن أحدث المقطوعات المعنية بالجسد التي صدرت حديثاً، أجيبها بتفانٍ، إلّا أنّها في الفترة الأخيرة تأزمت حالتها، وأصبحت تلهج بجملة غريبة لا نعرف كنهها بالضبط "القمر وحده الذي يعرف"، عاودها طليقها لمرتين أو ثلاثة، وكان يسأل عنها من خلالي، المتابِعة الوحيدة لحالتها أنا، وقريبتها التي تسكن في أطراف المدينة، وهي امرأة تنتصف الخمسين لا تستطيع المجيء كل يوم، إلا أنّها انقطعت عن مواصلتي لمرات عدة، كان آخرها هذه المرة، والتي على إثرها نقلتْ إلى المشفى، هذا ما دونته جارتها، وقد ترتبت عليها كثير من الآراء التي أُخذت بعين الاعتبار في ما بعد).
في ثقافتنا التي تركز بشكل مبالغ فيه على سياسة وسطوة الجسد وسلطته، تشعر المرأة غالباً بأنها تخضع للحكم والتقييم، فالأثداء هي الدليل المرئي والملموس على أنوثتها، لذا فإن من أهم الدوافع التي كانت وراء اختيار قصة "الدائرة القصية" بالنسبة لي هو للوقوف على الواقع الإنساني والاجتماعي من خلال التعالقات الفكرية والفلسفية، التي لمح إليه الخزرجي من خلال استجابة التلقي عندي كقارئة وما يمكن أن تثيره هذه المدونة السردية، بما في ذلك التأكيد على ضرورة ألا يُفهم الوجود من منظور الأشياء.            
في العادة، يهتم علم الوجود بالأشياء غير المادية، فهو بناء خاص في القضايا الميتافيزيقية المترتبة على التصورات أو المفاهيم والقوانين العلمية، مثل "المادة والطاقة والزمان والمكان والكم والكيف والقانون والوجود الذهني" وغيرها من مفاهيم أفلاطون وأرسطو وبارمينيدس عن العقل والجوهر، ولكن له علاقة أحدث وأكثر استمرارية بمفاهيم "الكوجيتو الديكارتي".
فما هو الشيء إذن؟ ترى إيريجاري أنه الترابط والبناء لموضوع متطابق بذاته، خارج الطبيعة، منفصل وأصيل. إن الشيء محدّد وقابل للتعريف، وله حدود واضحة، ومنفصل عن الأشياء الأخرى. إنه لا يستمد وجوده من سياقه المحيط، ولا يغير طبيعته من سياق إلى آخر. الشيء بنظرها مادة سلبية خاملة، هو ما يمكن التعامل معه والتلاعب به وبناؤه وهدمه. ومن ثمّ فإن الخصائص الأساسية للشيء تكون مثل "الامتداد، والموقع، والسرعة، والوزن". ومن هنا أفترض أن فهم تجربة ثدي بطلة القصة ويكهام هو "بناء وتخيل" يرتبطان كليّاً بنظرة المجتمع التي تمثل عبرها المرأة "الآخر، والموضوع، الصلب والمحدد"، فيصبح "الثدي" هنا ضبابياً، وغير محدّد، ومتعدداً، وخالياً من الهوية الواضحة. التي تطرح التخصص والالتصاق بالكل.
ففي طرحها لمفهوم "الميتافيزيقا التي تولدها الرغبة الأنثوية" تعطي إيريجاري أهميّة كبيرة لتصور الوجود، الذي بحسب رينيه ديكاريت "إظهار حياة المرء وفقاً لنظام العالم وإخضاع إرادة المرء لنظام الأشياء".
وتقترح بأنه "سائل وليس صلبا أو أشياء"، فالسوائل على عكس الأشياء، ليست لها حدود مستقرة، ولكن هذا لا يعني أنها بلا نمط. بل تتدفق وتتحرك، والميتافيزيقا التي تعتقد أن الوجود "سائل" تميل إلى تفضيل الكائنات الحية المتحركة النابضة على المادة الميتة الخاملة في النظرة الديكارتية للعالم. هذه ببساطة ميتافيزيقا عملية، إذ تكون "الحركة والطاقة" سابقة وجودياً على الأشياء .لأنّ طبيعة الأشياء تستمدّ وجودها من السياق العضوي الذي تندرج فيه. وهو ما يثبت فكرة إيريجاري القائلة بأن النساء مرتبطات بشكل خاص "بالسائل" لو تناولنا بيولوجيا النساء بشأن الأثداء وما تحتويه وكيف تبدو؟
والمسألة المهمة هنا هي أن ميتافيزيقا الأشياء المتطابقة ذاتياً ترتبط بشكل واضح بهيمنة الطبيعة التي اشتملت على هيمنة النساء، لأن الثقافة أسقطت علينا هويتنا مع "الجسد البائس أو المشوه".
إن الكيفية التي نفكر بها في كائنات العالم تشكل فارقاً، وبوسعنا أن نتخذ خيارات بشأنها تبدو ذات دلالات سياسية. فميتافيزيقا السوائل، حيث يعتمد وجود أي مكان على محيطه، وحيث لا نتمكن من تحديد ما هو داخله وخارجه بوضوح، هي طريقة أفضل للتفكير في العالم من وجهة نظر بيئية. وبما أن مشكلة المرأة تتعلق "بالتشييء" الحرفي والمجازي، فإن تقويض الميتافيزيقا الخاصة بالأشياء هنا يمكن أن تكون أيضاً ايجابية للنساء.
لا أريد التوسع أكثر وأتناول نظرية المعرفة التي تنطلق من ذاتية أنثوية والخوض في مسألة للمس والبصر وتأثيرهما على توظيف جسد المرأة، وما أشار اليه ميشال فوكو في النظم التأديبية الحديثة، أو ما ذكره "جورج هيغل، فريدريك نيتشه، جاك دريدا" أو ما ركز عليه النسويين مثل " كورنيل ويست، وكارل غوستاف يونغ". ولكني سأكتفي بتحليل الفيلسوفة روزالين ديبروس في كتابها "أجساد النساء.. الأخلاق والتجسيد والاختلاف الجنسي" المحاولات في كل من الأخلاقيات النسوية وغير النسوية للتعرف على دور الاختلاف الجنسي. وانتقاد الخطابات الطبية التي تخفي أوصافها دستور وتنظيم "الجسد" بالاعتماد على رؤى من الفلسفة والنظرية النسوية.  
فعلى مدى الأعوام الماضية، دعت المزيد من الأصوات في دراسات الإعاقة والنسوية إلى الاهتمام بالتجارب المطروحة عن استئصال الثدي في الأجناس الأدبية المختلفة، لأن هذه السرديات تؤكد الأهمية الوجودية في روايات وقصص الأجساد التي تقع خارج نطاق بعض المفاهيم المعممة لما هو طبيعي أو قياسي في الحياة العامة.
من خلال القصة التي تناولها الخزرجي تظهر الإعاقة الجسدية للمرأة بوضوح، فيبدو الجسد الأنثوي وكأنه مشروع يلعب فيه الانضباط الذاتي دوراً حاسماً: "عبثاً رحتُ أتفحصُ جسدي، وأتلمسُ ما يميز جنسي، وأنظر إلى المرآة بترقب، مررت كفي على ما يصيرني أنثى، ويجعلني أتفرد عن الآخر، ثدييَّ، فخذيَّ المفصّلة وما بينهما". يبدو أن أسلوب الحياة النشط يتعلق بشيء غامر، إذ يكون التأكد جزءا من أسلوب حياة صارم يتطلب الالتزام: "أحسستُ أن ثمة آخر يراني، مرآة بطعم الآخر، لعلَّ المرآة عين الآخر، الدائرة التي أستشعرها للتو، كنت أخفي ثديي الأيمن، أو أرفعه إلى الأعلى، أو أحرفه باتجاهين متعاكستين، مانحة صورة مغايرة عن السائد، ومتماهية مع الوجه المدّعي الذي تخفية". غالباً ما يرتبط التأكد من أمر ما بقوة الإرادة، ويوصف بأنه عمل شاق مستمر على مدى فترة طويلة من الزمن. مثال غير مباشر على ذلك هو الاقتباس التالي: "ثمة تناغم مهول بين جسد المرأة والموسيقى"، تعترف ويكهام هنا بأن الحياة الطبيعية مع الجسد والموسيقى مهمة جداً. وهي هنا تفترض التناغم التام بين الإيقاع والمرأة من حيث التأثير في الآخر، فكلامها يحركان المشاعر التي تنصت لهما أو  تبصرهما. ومن ثم ثمة ردة فعل نحوهما.
وفي لمحة فارقة يعتبر الفيلسوف مارك شيري الإعاقة بأنها "هوية ذات أبعاد اجتماعية وذاتية، قد ترتبط بمشاعر المجتمع والتضامن والفخر، أو على العكس من ذلك، بمشاعر الاختلاف والاستبعاد والعار".
وتوفر نظرية الإعاقة النسوية العديد من الطرق للتفكير في إعاقة المرأة وكيف تُعتبر إعاقتها هوية وليس شيئاً مخجلاً أو محرجاً.. في مذكرات الكاتبة النسويّة ودري جيرالدين لورد "يوميات السرطان – 1980"، على سبيل المثال، بعد التدخل الجراحي الذي خضعت له لورد، رفضت الحصول على ثدي اصطناعي، لأنها تعتبره شيئاً ضد هويتها وجسدها. لقد كانت تعكس كيف أن الإعاقة هوية مرتبطة بجسدها. ومن ثم، فإن رفض لورد للثدي الاصطناعي يدل على مدى أهمية الحفاظ على هويتها الحقيقية في المجتمع، حتى لو واجهت مواقف سلبية.
وتجادل النسويات بأن مفهوم ميشال فوكو عن "آليات البانوبتيك" أو "الرؤية الشاملة" مهم لفهم كيف تضفي النساء طابع موضوعي على أجسادهن. وبذلك نخلق مراقبة ذاتية تقودهن إلى التوافق مع مُثُل الجسد الأنثوي المهيمنة.
فالنساء يعتقدن أن هذه المراقبة الذاتية تنبع من معاييرهن الشخصية. ومن ثم هنّ يلّمن أنفسهن على وجود علاقة صعبة مع أجسادهن، بدلاً من تحميل المؤسسات والممارسات الاجتماعية مسؤولية إضفاء الطابع المثالي على الجسد الأنثوي غير الواقعي.
وهنا يبدو من المعقول أن خطابات النسوية تفسر أيضاً التغييرات في مُثُل جسد الأنثى، حيث يعني تنمية جسد أنثوي صحي وغير مشوه اختيار أن تكون أقل اهتماماً بكيفية تقييم الجسد من منظور الذكور.
وعادة ما تتعرض الخطابات المتنمرة على اللواتي يفقدن أثداءهن لانتقادات واسعة النطاق من قبل الباحثين النسويين لاحتوائها على توقعات متناقضة لأجساد النساء، لرغبتها بنماذج مثالية للجسد لا يمكن لأي امرأة أن ترقى إليها.
وأخيراً.. يمكن القول إن استئصال الثدي واحد من المشكلات العسيرة التي تواجه كل من يقترب منها سواء كان كاتباً قاصاً مثل ميثم الخزرجي، أو ناقداً يحاول سبر غورها مثلي، أو قارئاً سيجد في مادتها إغراء معرفياً، لأنّ تلك المسألة التي تتعلق بـ "قلع" أو "كشط" أو "بتر" أو "قطع".. الثدي تدخلنا في قمع إعصاري من الأفكار المتناقضة، فالمرأة ستفقد "علامة" ظاهرية لأنوثتها و"علامة" وجودية لأمومتها.. تفقدها من أجل أن تعيش.. هي إذن معادلة حلّها صعب، أن تعيش مع علامتها ميتة أو تفقد علامتها بنصف حياة.